فصل: تفسير الآيات رقم (9- 15)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


سورة الشمس

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ‏(‏1‏)‏ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ‏(‏2‏)‏ وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ‏(‏3‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ‏(‏4‏)‏ وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ‏(‏5‏)‏ وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ‏(‏6‏)‏ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ‏(‏7‏)‏ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ‏(‏8‏)‏‏}‏

لما أثبت في سورة البلد أن الإنسان في كبد، وختمها بأن من حاد عن سبيله كان في أنكد النكد، وهو النار المؤصدة، أقسم أول هذه على أن الفاعل لذلك أولاً وآخراً هو الله سبحانه لأنه يحول بين المرء وقلبه وبين القلب ولبه، فقال مقسماً بما يدل على تمام علمه وشمول قدرته في الآفاق علويها وسفليها، والأنفس سعيدها وشقيها وبدأ بالعالم العلوي، فأفاد ذلك قطعاً العلم بأنه الفاعل المختار، وعلى العلم بوجوب ذاته وكمال صفاته، وذلك أقصى درجات القوى النظرية، تذكيراً بعظائم آلائه، ليحمل على الاستغراق في شكر نعمائه، الذي هو منتهى كمالات القوى العملية، مع أن أول المقسم به مذكر بما ختم به آخر تلك من النار‏:‏ ‏{‏والشمس‏}‏ أي الجامعة بين النفع والضر بالنور والحر، كما أن العقول كذلك لا أنور منها إذا نارت، ولا أظلم منها إذا بارت ‏{‏وضحاها *‏}‏ أي وضوئها الناشئ عن جرمها العظيم الشأن البديع التكوين المذكر بالنيران إذا أشرقت وقام سلطانها كإشراق أنوار العقول، والضحى- بالضم والقصر‏:‏ صدر النهار حين ارتفاعه، وبالفتح والمد‏:‏ شدة الحر بعد امتداد النهار، وشيء ضاح- إذا ظهر للشمس والحر‏.‏

ولما افتتح بذكر آية النهار، أتبعه ذكر آية الليل فقال‏:‏ ‏{‏والقمر‏}‏ أي المكتسب من نورها كما أن أنوار النفوس من أنوار العقول ‏{‏إذا تلاها *‏}‏ أي تبعها في الاستدارة والنور بما دل على أن نوره من نورها من القرب الماحق لنوره والبعد المكتسب له في مقدار ما يقابلها من جرمه، ولا يزال يكثر إلى أن تتم المقابلة فيتم النور ليلة الإبدار عند تقابلهما في أفق الشرق والغرب، ومن ثم يأخذ في المقاربة فينقص بقدر ما ينحرف عن المقابلة، ونسبة التبع إليه مجازية أطلقت بالنسبة إلى ما ينظر منه كذلك‏.‏

ولما ذكر الآيتين، ذكر ما هما آيتاه، وبدا بهما لأنه لا صلاح له إلا بهما كما أنه لا صلاح للبدن إلا بالنفس والعقل فقال‏:‏ ‏{‏والنهار‏}‏ أي الذي هو محل الانتشار فيما جرت به الأقدار ‏{‏إذا جلاها *‏}‏ أي جلى الشمس بحلية عظيمة بعضها أعظم من بعض باعتبار الطول والقصر والصحو والغيم والضباب والصفاء والكدر كما أن الأبدان تارة تزكي القلوب والنفوس والعقول وتارة تدنسها، لأن العقل يكون في غاية الصفاء والدعاء إلى الخير في حال الصغر ثم لا يزال يزيد وينقص بحسب زكاء البدن في حسن الجبلة، أو نجاسته بسوء الجبلة، حتى يصير الشخص نوراً محضاً ملكاً ناطقاً إذا طابق البدن العقل فتعاونا على الخير، أو يصير ظلاماً بحتاً شيطاناً رجيماً إذ خالف البدن العقل بسوء الجبلة وشرارة الطبع‏.‏

ولما ذكر معدن الضياء، ذكر محل الظلام فقال‏:‏ ‏{‏والليل‏}‏ أي الذي هو ضد النهار فهو محل السكون والانقباض والكمون ‏{‏إذا يغشاها *‏}‏ أي يغطي الشمس فيذهب ضوءها حين تغيب فتمتد ظلال الأرض على وجهها المماس لنا، فيأخذ الأفق الشرقي في الإظلام، ويمتد ذلك الظلام بحسب طول الليل وقصره كما يغطي البدن نور العقل بواسطة طبعه بخبثه ورداءة عنصره، وذلك كله بمقادير معلومة، وموازين قسط محتومة، ليس فيها اختلال، ولا يعتريها انحلال، حتى يريد ذو الجلال، ولم يعبر بالماضي كما في النهار لأن الليل لا يذهب الضياء بمرة بل شيئاً فشيئاً، ولا ينفك عن نور بخلاف النهار، فإنه إذا أبدى الشمس ولم يكن غيم ولا كدر جلى الشمس في آن واحد، فلم يبق معه ظلام بوجه‏.‏

ولما ذكر الآيتين ومحل أثرهما، ذكر محل الكل فقال تعالى‏:‏ ‏{‏والسماء‏}‏ أي التي هي محل ذلك كله ومجلاه كما أن الأبدان محل النفوس، والنفوس مركب العقول، ولما رقى الأفكار من أعظم المحسوسات المماسة إلى ما هو دونه في الحس وفوقه في الاحتياج إلى إعمال فكر، رقي إلى الباطن الأعلى المقصود بالذات وهو المبدع لذلك كله معبراً عنه بأداة ما لا يعقل، مع الدلالة بنفس الإقسام، على أن له العلم التام، والإحاطة الكبرى بالحكمة البالغة، تنبيهاً على أنهم وصفوه بالإشراك وإنكار الحشر بتلك المنزلة السفلى والمساواة بالجمادات التي عبدوها مع ما له من صفات الكمال التي ليس لغيره ما يداني شيئاً منها، زجراً لهم بالإشارة والإيماء عن ذلك ومشيراً إلى شدة التعجيب منهم لكونها أداة التعجب فقال‏:‏ ‏{‏وما بناها *‏}‏ أي هذا البناء المحكم الذي ركب فيه ما ذكره إشارة إلى ما وراءه مما يعجز الوصف‏.‏

ولما ذكر البناء ذكر المهاد فقال‏:‏ ‏{‏والأرض‏}‏ أي التي هي فراشكم بمنزلة محال تصرفاتكم بالعقل في المعاني المقصودة ‏{‏وما طحاها *‏}‏ أي بسطها على وجه هي فيه محيطة بالحيوان كله ومحاط بها في مقعر الأفلاك، وهي مع كونها ممسكة بالقدرة كأنها طائحة في تيار بحارها، وهي موضع البعد والهلاك ومحل الجمع- كل هذا بما يشير إليه التعبير بهذا اللفظ إشارة إلى ما في سعي الإنسان من أمثال هذا، قال أهل البصائر‏:‏ وليس في العالم الآفاقي شيء إلا وفي العالم النفساني نظيره، وانشدوا في ذلك‏:‏

دواؤك فيك وما تشعر *** وداؤك منك وتستنكر

وتحسب أنك جزء صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر

فالسماوات سبع كطباق الرأس التي تتعلق بالقوى المعنوية والحسية كالذاكرة والحافظة والواهمة والمخيلة والمفكرة والحس المشترك وما هو لمقاسم البصر في العين، ونظير الشمس الروح في إشراقه وحسنه، ونظير الليل الطبع فإن ما به من نور فإنما هو من الروح كما أن الليل كذلك لا يكون نوره إلا من الشمس بواسطة إفادتها للقمر المنير له والكواكب، ونظير النهار- الذي هو نير في أصله ومتكدر بما يخيل له من السحب ونحوه- القلب وسحبه الشكوك والأوهام النفسية، ونظير القمر في ظلمته بأصله وإنارته بالشمس النفس، فإذا أكسبها القلب المستفيد من الروح النور أنار جميع البدن، وإذا أظلمت أظلم كله، والأعضاء الباطنة كالكواكب يقوم بها البدن فينير له الوجود بواسطة الروح والنفس، والأمطار كالدمع، والحر كالحزن، والبرد كالسرور، والرعد كالنطق، والبرق كالملح، والرياح كالنفس- إلى غير ذلك من البدائع لمن تأمل، والعالم السفلي سبع طباق أيضاً، قال الملوي‏:‏ «ونظيرها طبقة الجلد» وهي ثلاث، وطبقة اللحم وطبقة الشحم وطبقة العروق وطبقة العصب، والجبال كالعظام والمعادن منها المياه وفيها العذب كالريق والملح كالدمع والمر كما في الأذن والمنتن منه كما في الأنف، ومنه ما هو جار كالبول، ومنه ما هو كالعيون وهو الدم، والسيل كالعرق، والمعادن المنطبعة كالحديد والرصاص هي وسخ الأرض وهي كالعذرة وما يخرج من الجلد من خبث، والنبات كالشعور تارة تحلق كالحصاد وتارة تقلع كالنتف، والحيوانات التي فيها كالقمل، وطيورها كالبراغيث، وعامر البدن ما أقبل منه، وخرابه ما أدبر‏.‏

ولما أتم الإشارة إلى النفوس لأهل البصائر، صرح بالعبارة لمن دونهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ونفس‏}‏ أي أيّ نفس جمع فيها سبحانه العالم بأسره‏.‏ ولما كانت النفوس أعجب ما في الكون وأجمع، عبر فيها بالتسوية حثاً على تدبر أمرها للاستدلال على مبدعها للسعي في إصلاح شأنها فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما سواها *‏}‏ أي عدلها على هذا القانون الأحكم في أعضائها وما فيها من الجواهر والأعراض والمعاني وعجائب المزاج من الأخلاط المتنافرة التي لاءم بينها بالتسوية والتعديل فجعلها متمازجة وقد أرشد السياق والسباق واللحاق إلى أن جواب القسم مقدر تقديره‏:‏ لقد طبع سبحانه وتعالى نفوسكم على طبائع متباينة هيأها بها لما يريد من القلوب من تزكية وتدسية بما جعل لكم من القدرة والاختيار، وأبلغ في التقدم إليكم في تزكية نفوسكم وتطهير قلوبكم لاعتقاد الحشر بما هو أوضح من الشمس لا شبهة فيه ولا لبس لتنجو من عذاب الدنيا والآخرة بالاتصاف بالتقوى، والانخلاع من الفجور والطغوى‏.‏

وقال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير‏:‏ لما تقدم في سورة البلد تعريفه تعالى بما خلق فيه الإنسان من الكبد مع ما جعل له سبحانه من آلات النظر، وبسط له من الدلائل والعبر، وأظهر في صورة من ملك قياده، وميز رشده وعناده ‏{‏وهديناه النجدين‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 10‏]‏ ‏{‏إنا هديناه السبيل‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 3‏]‏ وذلك بما جعل له من القدرة الكسبية التي حقيقتها اهتمام أو لم‏؟‏ وأنى بالاستبداد والاستقلال، ثم ‏{‏والله خلقكم وما تعملون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 96‏]‏ أقسم سبحانه وتعالى في هذه السورة على فلاح من اختار رشده واستعمل جهده وأنفق وجده ‏{‏قد أفلح من زكاها‏}‏ وخيبة من غاب هداه فاتبع هواه ‏{‏وقد خاب من دساها‏}‏ فبين حال الفريقين وسلوك الطريقين- انتهى‏.‏

ولما كان أعجب أمورها الفجور لما غلب سبحانه عليها من الحظوظ والشهوات، وهي تعلم بما لها من زاجر العقل بصحيح النقل أن الفجور أقبح القبيح، والتقوى لما أقام عليها من ملك العقل الملكي وغريزة العلم النوراني أحسن الحسن، وتذوق أن الفجور أشهى شهي، وأن التقوى أمرّ شيء وأصعبه، وأثقله وأتعبه، قال معلماً أن هذا لا يقدر عليه سواه لأنه أعجب من جميع ما مضى لأن البهيمة لا تقدم على ما يضرها وهي تبصر ولو قطعت، والآدمي يقدم على ما يضره وهو يعلم ويقاتل من منعه منه، فقال مسبباً عما حذف من جواب القسم‏:‏ ‏{‏فألهمها‏}‏ أي النفس إلهام الفطرة السابقة الأولى قبل ‏{‏ألست بربكم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ ‏{‏فجورها‏}‏ أي انبعاثها في الميل مع دواعي الشهوات وعدم الخوف الحامل على خرق سياج الشريعة بسبب ذلك الطبع الذي عدل فيه ذاتها وصفاتها في قسر المتنافرات على التمازج غاية التعديل ‏{‏وتقواها *‏}‏ أي خوفها الذي أوجب سكونها وتحرزها بوقايات الشريعة، فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر الفجور أولاً دالّ على السكون الذي هو ضده ثانياً، وذكر التقوى ثانياً دالّ على ضده، وهو عدم الخوف أولاً، وإلهامها للأمرين هو جعله لها عارفة بالخير والشر مستعدة ومتهيئة لكل منهما؛ ثم زاد ذلك بالبيان التام بحيث لم يبق لبس، فزالت الشبه عقلاً بالغريزة والإلهام ونقلاً بالرسالة والإعلام‏.‏ ودل بالإضافة على أن ذلك كله منسوب إليها ومكتوب عليها وإن كان بخلقه وتقديره لأنه أودعها قوة وجعل لها اختياراً صالحاً لكل من النجدين، وأوضح أمر النجدين في الكتب وعلى ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام بعد ما وهبه لها من الفطرة القويمة وأخفى عنها سر القضاء والقدرة وعلم العاقبة، فأقام بذلك عليها الحجة وأوضح المحجة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 15‏]‏

‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ‏(‏9‏)‏ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ‏(‏10‏)‏ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا ‏(‏11‏)‏ إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا ‏(‏12‏)‏ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا ‏(‏13‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا ‏(‏14‏)‏ وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا ‏(‏15‏)‏‏}‏

ولما كان من المعلوم أن من سمع هذا الكلام يعلم أن التقوى لا يكون إلا مأموراً بها، والفجور لا يكون إلا منهياً عنه، فيتوقع ما يقال فيهما مما يتأثر عنهما، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قد أفلح‏}‏ أي ظفر بجميع المرادات ‏{‏من زكاها *‏}‏ أي نماها وأصلحها وصفاها تصفية عظيمة بما يسره الله له من العلوم النافعة والأعمال الصالحة وطهرها على ما يسره لمجانبته من مذامّ الأخلاق لأن كلاًّ ميسر لما خلق له، والدين بني على التحلية والتخلية و«زكى» صالح للمعنيين ‏{‏وقد خاب‏}‏ أي حرم مراده مما أعد لغيره في الدار الآخرة وخسر وكان سعيه باطلاً ‏{‏من دساها *‏}‏ أي أغواها إغواء عظيماً وأفسدها ودنس محياها وقذرها وحقرها وأهلكها بخبائث الاعتقاد ومساوئ الأعمال، وقبائح النيات والأحوال، وأخفاها بالجهالة والفسوق، والجلافة والعقوق، وأصل «دسى» دسس، فالتزكية أن يحرص الإنسان على شمسه أن لا تكسف، وقمره أن لا يخسف، ونهاره أن لا يتكدر، وليله ألا يطفى، والتدسيس أقله إهمال الأمر حتى تكسف شمسه، ويخسف قمره، ويتكدر نهاره، ويدوم ليله، وطرق ذلك اعتبار نظائر المذكورات من الروحانيات وإعطاء كل ذي حق حقه، فنظير الشمس هي النبوة لأنها كلها ضياء باهر وصفاء قاهر، وضحاها الرسالة وقمرها الولاية، والنهار هو العرفان، واليل عدم طمأنينة النفس بذكر الله وما جاء من عنده، وإعراضها عن الانقياد لقبول ما جاء من النبوة أو الولاية، والعلماء العاملون هم أولياء الله، قال الإمامان أبو حنيفة والشافعي رضي الله عنهما‏:‏ إن لم تكن العلماء أولياء الله فليس الله ولي- رواه عنهما الحافظ أبو بكر الخطيب، وهو مذكور في التبيان وغيره من مصنفات النووي، ونظير السماء العزة والترفع عن الشهوات وعن خطوات الشياطين من الإنس والجن، والأرض نظيرها التواضع لحق الله ولرسوله وللمؤمنين فيكون بإخراجه المنافع لهم كالأرض المخرجة لنباتها، والتدسية خلاف ذلك، من عمل بالسوء فقد هضم نفسه وحقرها فأخفاها كما أن اللئام ينزلون بطون الأودية ومقاطعها بحيث تخفى أماكنهم على الطارقين، والأجواد ينزلون الروابي، ويوقدون النيران للطارقين، ويشهرون أماكنهم للمضيفين منازل الأشراف في الأطراف كما قيل‏:‏

قوم على المحتاج سهل وصلهم *** ومقامهم وعر على الفرسان

ولما كان السياق للترهيب بما دلت عليه سورة البلد وتقديم الفجور هنا، وكان الترهيب أحث على الزكاء، قال دالاًّ على خيبة المدسي ليعتبر به من سمع خبره لا سيما إن كان يعرف أثره‏:‏ ‏{‏كذبت ثمود‏}‏ أنث فعلهم لضعف أثر تكذيبهم لأن كل سامع له يعرف ظلمهم فيه لوضوح آيتهم وقبيح غايتهم، وما لهم بسفول الهمم وقباحة الشيم، وخصهم لأن آيتهم مع أنها كانت أوضح الآيات في نفسها هي أدلها على الساعة، وقريش وسائر العرب عارفون بهم لما يرون من آثارهم، ويتناقلون من أخبارهم ‏{‏بطغواها *‏}‏ أي أوقعت التكذيب لرسولها بكل ما أتى به عن الله تعالى بسبب ما كان لنفوسهم من وصف الطغيان، وهو مجاوزة القدر وارتفاعه والغلو في الكفر والإسراف في المعاصي والظلم، أو بما توعدوا به من العذاب العاجل وهي الطاغية التي أهلكوا بها، وطغى- واوي يائي يقال‏:‏ طغى كدعا يطغو طغوى وطغواناً- بضمها كطغى يطغى، وطغي كرضي طغياً وطغياناً- بالكسر والضم، فالطغوى- بالفتح اسم، وبالضم مصدر، فقلبت الياء- على تقدير كونه يائياً- واواً للتفرقة بين الاسم والصفة، واختير التعبير به دون اليائي لقوة الواو، فأفهم أنهم بلغوا النهاية في تكذيبهم، فكانوا على الغاية من سوء تعذيبهم‏.‏

ولما ذكر تكذيبهم، دل عليه بقوله‏:‏ ‏{‏إذ‏}‏ أي تحقق تكذيبهم أو طغيانهم بالفعل حين ‏{‏انبعث أشقاها *‏}‏ أي أشد ثمود شقاء وهو عاقر الناقة للمشاركة في الكفر والزيادة بمباشرة العقر، وهو قدار بن سالف، أو هو ومن مالاه على عقرها، فإن أفعل التفضيل إذا أضيف صلح للواحد والجمع ‏{‏فقال لهم‏}‏ أي بسبب الانبعاث أو التكذيب الذي دل على قصدهم لها بالأذى، وأظهر ولم يضمر وعين الإظهار بالجلالة إشارة إلى عظيم آيتهم وبديع بدايتهم ونهايتهم فقال‏:‏ ‏{‏رسول الله‏}‏ أي الملك الذي له الأمر كله، فتعظميه من تعظيم مرسله وهو صالح عليه الصلاة والسلام وكذا الناقة، وعبر بالرسول لأن وظيفته الإبلاغ والتحذير الذي ذكر هنا، ولذا قال مشيراً بحذف العامل إلى ضيق الحال عن ذكره لعظيم الهول وسرعة التعذيب عند مسها بالأذى، وزاد في التعظيم بإعادة الجلالة‏:‏ ‏{‏ناقة الله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي له الجبروت كله فلا يقر من انتهك حرمته واجترأ على ما أضافه إليه، ولهذا أعاد الإظهار دون الإضمار، والعامل‏:‏ دعوا أو احذروا- أو نحو ذلك أي احذروا أذاها بكل اعتبار ‏{‏وسقياها *‏}‏ أي الماء الذي جعله الله تعالى لها لسقيها وهو بئرها، فلا تذودوها عن بئرها في اليوم الذي تكون فيه نوبتها في الشرب ولا تمسوها بسوء، وكأنه صلى الله عليه وسلم فهم عنهم بعد مدة أنهم يريدون عقرها فكرر عليهم التحذير ‏{‏فكذبوه‏}‏ أي أوقعوا تكذيبه بسبب طغيانهم وعقب أمره هذا الأخير فيما حذر من حلول العذاب، أو تكون الفاء هي الفصيحة أي قال لهم ذلك فكانت بعده بينه وبينهم في أمرها أمور، فأوقعوا تكذيبه فيها كلها ‏{‏فعقروها‏}‏ أي بسبب ذلك التكذيب بعضهم بالفعل وبعضهم بالرضا به ‏{‏فدمدم‏}‏ أي عذب عذاباً تاماً مجلّلاً مغطياً مطبقاً مستأصلاً شدخ به رؤوسهم وأسرع في الإجهاز وطحنهم طحناً مع الغضب الشديد؛ قال الرازي‏:‏ والدمدمة‏:‏ تحريك البناء حتى ينقلب، ودل بأداة الاستعلاء على شدته وإحاطته فقال‏:‏ ‏{‏عليهم‏}‏ ودل على شدة العذاب لشدة الغضب بلفت القول بذكر صفة الإحسان التي كفروها لأنه لا أشد غضباً ممن كفر إحسانه فقال‏:‏ ‏{‏ربهم‏}‏ أي الذي أحسن إليهم فغرَّهم إحسانه فقطعه عنهم فعادوا كأمس الدابر ‏{‏بذنبهم‏}‏ أي بسببه‏.‏

ولما استووا في الظلم والكفر بسبب عقر الناقة بعضهم بالفعل وبعضهم بالرضا والحث، قال مسبباً عن ذلك ومعقباً‏:‏ ‏{‏فسواها *‏}‏ أي الدمدمة عليهم فجعلها كأنها أرض بولغ في تعديلها فلم يكن فيها شيء خارج عن شيء كما سوى الشمس المقسم بها وسوى بين الناس فيها، وكذا ما أقسم به بعدها، فكانت الدمدمة على قويهم كما كانت على ضعيفهم، فلم تدع منهم أحداً ولم يتقدم هلاك أحد منهم على أحد، بل كانوا كلهم كنفس واحدة من قوة الصعقة وشدة الرجفة كما أنهم استووا في الكفر والرضا بعقر الناقة وكل نفس هي عند صاحبها كالناقة قد أوصى الله صاحبها أن يرعى نعمته سبحانه فيها فيزكيها ولا يدسيها، فإن الناقة عبارة عن مطية يقطع عليها السير حساً أو معنى، وذلك صالح لأن يراد به النفس التي تقطع بها عقبات الأعمال، والسقيا ما يعيش المسقيّ به، وهو صالح لأن يراد به الذكر والعبادة، فمن لم يرع النعمة ويشكر المنعم فقد عقرها، فاستحق الدمدمة منه، وكما أنه سوى بينهم في الدمدمة سوى بين المهتدين في النجاة ‏{‏ولا‏}‏ أي والحال أنه لا ‏{‏يخاف‏}‏ في وقت من الأوقات أي ربهم، روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما ويؤيده قراءة أهل المدينة والشام بالفاء المسببة عن الدمدمة والتسوية وكذلك هي في مصاحفهم ‏{‏عقباها *‏}‏ أي عاقبة هذه الدمدمة وتبعتها فإنه الملك الأعلى الذي كل شيء في قبضته لا كما يخاف كل معاقب من الملوك فيبقى بعض الإبقاء فعلم أنه سبحانه وتعالى يعلي أولياءه لأنهم على الحق، ويسفل أعداءه لأنهم على الباطل، فلا يضل بعد ذلك إلا هالك، بصيرته أشد ظلاماً من الليل الحالك، وقد رجع آخرها على أولها بالقسم وجوابه المحذوف الذي هو طبع النفوس على طبائع مختلفة والتقدم إليهم بالإنذار من الهلاك، ونفس القسم أيضاً فإن من له هذه الأفعال الهائلة التي سوى بين خلقه فيها وهذا التدبير المحكم هو بحيث لا يعجزه أمر ولا يخشى عاقبة- والله الموفق للصواب‏.‏

سورة الليل

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 10‏]‏

‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ‏(‏1‏)‏ وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ‏(‏2‏)‏ وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ‏(‏3‏)‏ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ‏(‏4‏)‏ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ‏(‏5‏)‏ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ‏(‏6‏)‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ‏(‏7‏)‏ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ‏(‏8‏)‏ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ‏(‏9‏)‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ‏(‏10‏)‏‏}‏

لما بين في الشمس حال من زكى نفسه وحال من دساها، وأوضح في آخرها من مخالفة ثمود لرسولهم ما أهلكهم، فعلم أن الناس مختلفون في السعي في تحصيل نجد الخير ونجد الشر، فمنهم من تغلب عليه ظلمة اللبس، ومنهم من يغلب عليه نهار الهدى، فتباينوا في مقاصدهم، وفي مصادرهم ومواردهم، بعد أن أثبت أنه هو الذي تصرف في النفوس بالفجور والتقوى، أقسم أول هذه بما يدل على عجائب صنعه في ضره ونفعه على ذلك، تنبيهاً على تمام قدرته في أنه الفاعل بالاختيار، يحول بين المرء وقلبه حتى يحمله على التوصل إلى مراده، بضد ما يوصل إليه بل بما يوصل إلى مضاده، وعلى أنه لا يكاد يصدق الاتحاد في القصد والاختلاف في السعي والتوصل، وشرح جزاء كل تحذيراً من نجد الشر وترغيباً في نجد الخير، وبين ما به التزكية وما به التدسية فقال‏:‏ ‏{‏والّيل‏}‏ أي الذي هو آية الظلام الذي هو سبب الخبط والخلط لما يحدث عنه من الإشكال واللبس في الأحوال والإهلال الموصل إلى ظلمة العدم، وهو محل الأسرار بما يصل الأخيار ويقطع الأشرار‏:‏ ‏{‏إذا يغشى *‏}‏ أي يغطي ما كان من الوجود مبصراً بضياء النهار على التدريج قليلاً قليلاً، وما يدل عليه من جليل مبدعه، وعظيم ماحقه ومطلعه ‏{‏والنهار‏}‏ أي الذي هو سبب انكشاف الأمور كالموت الذي يزيل عن الروح علائق البدن فينجلي لها ما كانت فيه من القبائح، والجهر الذي يشرح النفس بإزالة اللبس ‏{‏إذا تجلّى *‏}‏ أي ظهر ظهوراً عظيماً بضياء الشمس، وأظهر ما كان خفياً فلم يدع لمبصر شيئاً من لبس، فمن كان يريد السر قصد الليل، ومن أراد الجهر قصد النهار سواء كان من الأبرار أو من الفجار‏.‏

ولما ذكر المتخالطين معنى، أتبعهما المتخالطين حساً، فقال مصرحاً فيهما بما هو مراد في الأول، وخص هذا بالتصريح تنبيهاً على أنه لكونه عاقلاً- عاقد يغلط في نفسه فيدعي الإلهية أو الاتحاد، أو غير ذلك من وجوه الإلحاد ‏{‏وما خلق‏}‏ وحكم التعبير بما الأغلب فيه غير العقلاء ما تقدم في سورة الشمس من تنبيههم على أنهم لما أشركوا به سبحانه وتعالى ما لا يعقل نزلوه تلك المنزلة وقد أحاط بكل شيء، وهو الذي خلق العلماء، وهم لا يحيطون به علماً مع ما يفيده «ما» من التعجب منهم في ذلك لكونها صيغة التعجب ‏{‏الذكر‏}‏ أي حساً بآلة الرجل ومعنًى بالهمة والقوة ‏{‏والأنثى‏}‏ حساً بآلة المرأة ومعنًى بسفول الهمة وضعف القوة وما دلاّ عليه من عظيم الاصطناع، وباهر الاختراع والابتداع، فإنه دل فرقه بينهما وهما من غير‏؟‏ واحدة وهي التراب على تمام قدرته المستلزم لشمول علمه وفعله بالاختيار، فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر أولاً الصنعة دلالة على حذفها ثانياً، وثانياً الصانع دلالة على حذفه أولاً‏.‏

ولما ذكر ما هو محسوس التخالف من المعاني والأجرام، أتبعه ما هو معقول التباين من الأعراض فقال‏:‏ ‏{‏إن سعيكم‏}‏ أي عملكم أيها المكلفون في التوصل إلى مقصد واحد، ولذلك أكده لأنه لا يكاد يصدق اختلاف وجوه السعي مع اتحاد المراد، وعبر بالسعي ليبذل كل في عمله غاية جهده ‏{‏لشتى *‏}‏ أي مختلف اختلافاً شديداً باختلاف ما تقدم، وهو جمع شتيت كقتلى وقتيل، فيكون الإنسان رجلاً وهو أنثى الهمة، ويكون أنثى وهو ذكر الفعل، فتنافيتم في الاعتقادات، وتعاندتم في المقالات، وتباينتم غاية التباين بأفعال طيبات وخبيثات، فساع في فكاك نفسه، وساع في إيثامها، فعلم قطعاً أنه لا بد من محق ومبطل ومرض ومغضب لأنه لا جائز أن يكون المتنافيان متحدين في الوصف بالإرضاء أو الإغضاب، فبطل ما أراد المشركون من قولهم ‏{‏لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 35‏]‏ الآية وما ضاهاها‏.‏

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير‏:‏ لما بين قبل حالهم في الافتراق، أقسم سبحانه على ذلك الشأن في الخلائق بحسب تقديره أزلاً ‏{‏ليبلوهم أيهم أحسن عملاً‏}‏ ‏[‏لا يوجد ليبلوهم بالياء في لغتنا وإنما كما في الكهف آية 7‏:‏ لنبلوهم‏.‏‏.‏‏.‏ وفي الملك آية 2‏:‏ لنبلوكم‏.‏‏.‏‏.‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن سعيكم لشتى‏}‏ فاتصل بقوله تعالى ‏{‏قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 10‏]‏ إن قوله تعالى ‏{‏فأما من أعطى واتقى- إلى- العسرى‏}‏ يلائمه تفسيراً وتذكيراً بما الأمر عليه من كون الخير والشر بإرادته وإلهامه وبحسب السوابق قوله‏:‏ ‏{‏فألهمها فجورها وتقواها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 8‏]‏ فهو سبحانه الملهم للإعطاء والاتقاء والتصدق، والمقدر للبخل والاستغناء والتكذيب ‏{‏والله خلقكم وما تعملون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 96‏]‏ ‏{‏لا يسئل عما يفعل‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 23‏]‏ ثم زاد ذلك إيضاحاً بقوله تعالى «إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى‏}‏ فتباً للقدرية والمعتزلة ‏{‏وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 105‏]‏- انتهى‏.‏

ولما طابق بين القسم والمقسم عليه، ونبه بالقسم والتأكيد مع ظهور المسقم عليه على أنهم في أمنهم مع التحذير كمن يدعي أنه لا فرق وأن مآل الكل واحد كما يقوله أصحاب الوحدة- عليهم الخزي واللعنة شرع في بيان تشتتت المساعي وبيان الجزاء لها، فقال مسبباً عن اختلافهم ما هو مركوز في الطباع من أنه لا يجوز تسوية المحسن بالمسيء ناشراً لمن زكى نفسه أو دساها نشراً مستوياً إيذاناً بأن المطيع فيه هذه الأمة- ولله الحمد- كثير بشارة لنبيها صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏فأما من أعطى‏}‏ أي وقع منه إعطاء على ما حددنا له وأمرناه به ‏{‏واتقى *‏}‏ أي وقعت منه التقوى وهو اتخاذ الوقايات من الطاعات واجتناب المعاصي خوفاً من سطواتنا ‏{‏وصدق‏}‏ أي أوقع التصديق للمخبر ‏{‏بالحسنى *‏}‏ أي وهي كلمة العدل التي هي أحسن الكلام من التوحيد وما يتفرع عنه من الوعود الصادقة بالآخرة والإخلاف في النفقة في الدنيا وإظهار الدين وإن قل أهله على الدين كله، وغير ذلك من كل ما وعد به الرسول صلى الله عليه وسلم سبحانه وتعالى، وعدل الكلام إلى مظهر العظمة إشارة إلى صعوبة الطاعة على النفس وإن كانت في غاية اليسر في نفسها لأنها في غاية الثقل على النفس فقال‏:‏ ‏{‏فسنيسره‏}‏ أي نهيئه بما لنا من العظمة بوعد لا خلف فيه ‏{‏لليسرى *‏}‏ أي الخصلة التي هي في غاية اليسر والراحة من الرحمة المقتضية للعمل بما يرضيه سبحانه وتعالى ليصل إلى ما يرضى به من الحياة الطيبة ودخول الجنة‏.‏

ولما ذكر المزكي وثمرته، أتبعه المدسي وشقوته فقال‏:‏ ‏{‏وأما من بخل‏}‏ أي أوجد هذه الحقيقة الخبيثة فمنع ما أمر به وندب إليه ‏{‏واستغنى‏}‏ أي طلب الغنى عن الناس وعما وعد به من الثواب وأوجده بما زعمت له نفسه الخائبة وظنونه الكاذبة‏.‏ فلم يحسن إلى الناس ولا عمل للعقبى‏:‏ ‏{‏وكذب‏}‏ أي أوقع التكذيب أن يستحق التصديق ‏{‏بالحسنى *‏}‏ أي فأنكرها، ولما كان جامداً مع المحسوسات كالبهائم قال‏:‏ ‏{‏فسنيسره‏}‏ أي نهيئه بما لنا من العظمة وعد لا خلف فيه ‏{‏للعسرى *‏}‏ أي للخصلة التي هي أعسر الأشياء وأنكدها، وهي العمل بما يغضبه سبحانه الموجب لدخول النار وما أدى إليه، وأشار بنون العظمة في كل من نجد الخير ونجد الشر إلى أن ارتكاب الإنسان لكل منهما في غاية البعد، أما نجد الخير فلما حفه من المكاره، وأما نجد الشر فلما في العقل والفطرة الأولى من الزواجر عنه، وذلك كله أمر قد فرغ منه في الأزل بتعيين أهل السعادة وأهل الشقاوة «وكل كما قال صلى الله عليه وسلم- ميسر لما خلق له»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 21‏]‏

‏{‏وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى ‏(‏11‏)‏ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ‏(‏12‏)‏ وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى ‏(‏13‏)‏ فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى ‏(‏14‏)‏ لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى ‏(‏15‏)‏ الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏16‏)‏ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ‏(‏17‏)‏ الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ‏(‏18‏)‏ وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى ‏(‏19‏)‏ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى ‏(‏20‏)‏ وَلَسَوْفَ يَرْضَى ‏(‏21‏)‏‏}‏

ولما كان أهل الدنيا إذا وقعوا في ورطة تخلصوا منها بأموالهم قال‏:‏ ‏{‏وما يغني‏}‏ أي في تلك الحالة ‏{‏عنه‏}‏ أي هذا الذي بخل وكذب ‏{‏ماله‏}‏ أي الذي بخل به رجاء نفعه، ويجوز أن يكون استفهاماً إنكارياً فيكون نافياً للإغناء على أبلغ وجه ‏{‏إذا تردّى *‏}‏ أي هلك بالسقوط في حفرة القبر والنار، تفعّل من الردى وهو الهلاك والسقوط في بئر‏.‏

ولما كان ربما قال المتعنت الجاهل بما له سبحانه وتعالى من العظمة التي لا اعتراض لأحد عليها‏:‏ ما له لا ييسر الكل للحسنى، استأنف جوابه مبيناً من ألزم به نفسه من المصالح تفضلاً منه بما له من اللطف والكرم وما يفعله مما هو له من غير نظر إلى ذلك بما له من الجبروت والكبر، فقال مؤكداً تنبيهاً على أنه يحب العلم بأنه لا حق لأحد عليه أصلاً‏:‏ ‏{‏إن علينا‏}‏ أي على ما لنا من العظمة ‏{‏للهدى *‏}‏ أي البيان للطريق الحق وإقامة الأدلة الواضحة على ذلك‏.‏

ولما بين ما ألزمه نفسه المقدس فصار كأنه عليه لتحتم وقوعه فكان ربما أوهم أنه يلزمه شيء، أتبعه ما ينفيه ويفيد أن له غاية التصرف فلا يعسر عليه شيء أراده فقال‏:‏ ‏{‏وإن لنا‏}‏ أي يا أيها المنكرون خاصاً بنا، وقدم ما العناية به أشد لأجل إنكارهم لا للفاصلة، فإنه يفيدها مثلاً أن يقال‏:‏ للعاجلة والأخرى، فقال‏:‏ ‏{‏للآخرة والأولى *‏}‏ فمن ترك ما بينا له من طريق الهداية لم يخرج عن كونه لنا ولم يضر إلا نفسه ولنا التصرف التام، بما نقيم من الأسباب المقربة للشيء جداً، ثم بما نقيم من الموانع الموجبة لبعده غاية البعد، فنعطي من نشاء ما نشاء ونمنع من نشاء ما نشاء، ومن طلب منهما شيئاً من غيرنا فال رأيه وخاب سعيه، وليس التقديم لأجل الفاصلة، فقد ثبت بطلان هذا وأنه لا يحل اعتقاده في غير موضع، منها آخر سورة براءة، وأنه لا فرق بين أن يعتقد أن فيه شيئاً موزوناً بقصد الوزن فقط ليكون شعراً، وأن يعتقد أن فيه شيئاً قدم أو أخر لأجل الفاصلة فقط ليكون سجعاً، على أنه لو كان هذا لأجل الفاصلة فقط لكان يمكن أن يقال‏:‏ للأولى- أو للأولة- والأخرى مثلاً‏.‏

ولما أخبر سبحانه وتعالى أنه ألزم نفسه المقدس البيان، وأن له كل شيء، المستلزم لإحاطة العلم وشمول القدرة، شرح ذلك بما سبب عنه من قوله لافتاً القول إلى تجريد الضمير من مظهر العظمة للترقق بالمخاطبين في تبعيد الوهم وتقريب الفهم فقال‏:‏ ‏{‏فأنذرتكم‏}‏ أي حذرتكم أيها المخالفون للطريق الذي بينته ‏{‏ناراً تلظّى *‏}‏ أي تتقد وتتلهب تلهباً هو في غاية الشدة من غير كلفة فيه على موقدها أصلاً ولا أحد من خزنتها- بما أشار إليه إسقاط التاء، وفي الإدغام أيضاً إشارة إلى أن أدنى نار الآخرة كذلك، فيصير إنذار ما يتلظى وما فوق ذلك من باب الأولى‏.‏

ولما كان قد تقدم غير مرة تخصيص كل من المحسن والمسيء بداره بطريق الحصر إنكاراً لأن يسوى محسن بمسيء في شيء، وكان الحصر ب «لا» و«إلا» أصرح أنواعه قال‏:‏ ‏{‏لا يصلاها‏}‏ أي يقاسي حرها وشدتها على طريق اللزوم والانغماس ‏{‏إلا الأشقى *‏}‏ أي الذي هو في الذروة من الشقاوة وهو الكافر، فإن الفاسق وإن دخلها لا يكون ذلك له على طريق اللزوم، ولذلك وصفه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذي كذب‏}‏ أي أفسد قوته العلمية بأن أعرض عن الحق تكبراً وعناداً فلم يؤت ماله لزكاة نفسه ‏{‏وسيجنبها‏}‏ أي النار الموصوفة بوعد لا خلف فيه عن قرب- بما أفهمته السين من التأكيد مع التنفيس، وتجنيبه له في غاية السهولة- بما أفهمه البناء للمفعول ‏{‏الأتقى *‏}‏ أي الذي أسس قوته العلمية أمكن تأسيس، فكان في الذروة من رتبة التقوى وهو الذي اتقى الشرك والمعاصي، وهو يفهم أن من لم يكن في الذروة لا يكون كذلك، فإن الفاسق يدخلها ثم يخرج منها، ولا ينافي الحصر السابق‏.‏

ولما ذكر ما يتعلق بالقوة العلمية، أتبعه ما ينظر إلى القوة العملية فقال‏:‏ ‏{‏الذي يؤتي ماله‏}‏ أي يصرفه في مصارف الخير، ولذلك بينه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يتزكّى *‏}‏ أي يتطهر من الأوضار والأدناس بتطهيره لنفسه وتنميتها بذلك الإيتاء بالبعد عن مساوئ الأخلاق ولزوم محاسنها لأنه ما كذب وما تولى، والآية من الاحتباك‏:‏ ذكر التكذيب أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً، وإيتاء المال ثانياً دليلاً على حذف ضده أولاً‏.‏

ولما كان الإنسان قد يعطي ليزكي نفسه بدفع مانّه ومكافأة نعمه قال‏:‏ ‏{‏وما‏}‏ أي والحال أنه ما ‏{‏لأحد عنده‏}‏ وأعرق في النفي فقال‏:‏ ‏{‏من نعمة تجزى *‏}‏ أي هي مما يحق جزاؤه لأجلها‏.‏ ولما نفى أن يكون بذلك قصد مكافأة، قال مبيناً قصده باستثناء منقطع‏:‏ ‏{‏إلا‏}‏ أي لكن قصد بذلك ‏{‏ابتغاء‏}‏ أي طلب وقصد، ولفت القول إلى صفة الإحسان إشارة إلى وصفه بالشكر فقال‏:‏ ‏{‏وجه ربه‏}‏ الذي أوجده ورباه وأحسن إليه بحيث إنه لم ير إحساناً إلا منه ولا عنده شيء إلا وهو من فضله ‏{‏الأعلى *‏}‏ أي مطلقاً فهو أعلى من كل شيء، فلا يمكن أن يعطي أحد من نفسه شيئاً يقع مكافأة له، وعبر عن المنقطع بأداة المتصل للإشارة إلى أن الابتغاء المذكور كأنه نعمة ممن آتاه المال لأن الابتغاء- وهو تطلب رضا الله- كان السبب في ذلك الإيتاء بغاية الترغيب، وقد آل الأمر بهذه العبارة الرشيقة والإشارة الأنيقة مع ما أومأت إليه من الترغيب، وأعطته من التحبيب إلى أن المعنى‏:‏ إنه لا نعمى عليه لأحد في ذلك إلا الله، وعبر بالوجه إشارة إلى أن قصده أعلى القصود فلا نظر له إلا إلى ذاته سبحانه وتعالى التي عبر عنها بالوجه لأنه أشرف الذات، وبالنظر إليه تحصل الحياة والرغبة والرهبة، لا إلى طلب شيء من دنيا ولا آخرة‏.‏

ولما كان هذا مقاماً ليس فوقه مقام، قال تعالى بعد وعده من الإنجاء من النار‏:‏ ‏{‏ولسوف يرضى *‏}‏ أي بإعطاء الجنة العليا والمزيد بوعد لا خلف فيه بعد المذلة في الحياة الطيبة- بما أشارت إليه أداة التنفيس ولا بدع أن يكون هذا الوعد على هذا الوجه الأعلى لأن الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين اشترى بلالاً رضي الله عنه في جماعة من الضعفاء المسلمين يؤذيهم المشركون فأعتقهم، فبين تعالى أنه مطبوع على تزكية نفسه فهو المفلح كما ذكر في سورة الشمس، وأنه مخلص لإعطائه الضعفاء من الأيتام والمساكين وإعتاقه الضعفاء في كل حال كما ذكر في سورة البلد، نقل البغوي رضي الله تعالى عنه عن الزبير يعني ابن بكار أنه قال‏:‏ كان أبو بكر رضي الله عنه يبتاع الضعفاء فيعتقهم فقال له أبوه‏:‏ أي بني‏!‏ لو كنت تبتاع من يمنع ظهرك، قال‏:‏ منع ظهري أريد‏.‏ وقال‏:‏ إنه أعتق بلالاً وأم عميس وزهرة فأصيب بصرها حين أعتقها، فقالت قريش‏:‏ ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى، فقالت‏:‏ كذبوا وبيت الله، ما تضر اللات والعزى ولا تنفعان، فرد الله عليها بصرها، وأعتق النهدية وابنتها وجارية بني المؤمل‏.‏ وقال‏:‏ إنه اشترى بلالاً من أمية بن خلف استنقاذاً له مما كان فيه من العذاب حين كان يشد يديه ورجليه وقت الهاجرة ويلقيه عرياناً على الرمضاء ويضربه، وكلما ضربه صاح ونادى‏:‏ أحد أحد، فيزيده ضرباً فاشتراه بعبد كان لأبي بكر رضي الله عنه، كان ذلك العبد صاحب عشرة الآف دينار وغلمان وجوار ومواش وكان مشركاً، فلما اشتراه به وأعتقه قال المشركون‏:‏ ما فعل هذا ببلال إلا ليد كانت لبلال عنده، يعني فأنزل الله ذلك تكذيباً لهم‏.‏ ومن أبدع الأشياء تعقيبها بالضحى التي هي في النبي صلى الله عليه وسلم وفيها ‏{‏ولسوف يعطيك ربك فترضى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 5‏]‏ إشارة إلى أنه أقرب أمته إلى مقامه صلى الله عليه وسلم ما عدا عيسى صلى الله عليه وسلم لأنه الأتقى بعد النبيين مطلقاً، وإلى أن خلافته حق لا مرية فيه لأنه مما وعد النبي صلى الله عليه وسلم أنه يرضيه وأنه لا يرضيه غيره كما أنه أرضاه خلافته له في الصلاة ولم يرضه غيره حين نهى عن ذلك بل زجر لما سمع قراءة غيره وقال‏:‏ «يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر رضي الله عنه» وقد رجع آخرها على أولها بأن سعي هذا الصديق رضي الله عنه مباين أتم مباينة سعي ذلك الأشقى، وقال بعضهم‏:‏ إن المراد بذلك الأشقى أبو جهل، وأيضاً فإن هذا الختم دال على أن من صفى نفسه وزكاها بالتجلي بالنور المعنوي من إنارة ظلام الليل بما يجليه به من ضياء القيام وغير ذلك من أنواع الخير يرضى بالنور الحسي بعد الموت- والله الموفق للصواب‏.‏

سورة الضحى

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏وَالضُّحَى ‏(‏1‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ‏(‏2‏)‏ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ‏(‏3‏)‏ وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ‏(‏4‏)‏ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ‏(‏5‏)‏‏}‏

ولما حكم في آخر الليل بإسعاد الأتقياء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أتقى الخلق مطلقاً، وكان قد قطع عنه الوحي حيناً ابتلاء لمن شاء من عباده، وكان به صلى الله عليه وسلم صلاح الدين والدنيا والآخرة، وكان الملوان سبب صلاح معاش الخلق وكثير من معادهم، أقسم سبحانه وتعالى بهما على أنه أسعد الخلائق دنيا وأخرى، فقال مقدماً ما يناسب حال الأتقى الذي قصد به أبو بكر رضي الله عنه قصداً أولياً من النور الذي يملأ الأقطار، ويمحو كل ظلام يرد عليه ويصل إليه، مفهماً بما ذكر من وقت الضياء الناصع حالة أول النهار وآخر الليل التي هي ظلمة ملتف بساقها ساق النهار عند الإسفار‏:‏ ‏{‏والضحى *‏}‏ فذكر ما هو أشرف النهار وألطفه وهو زهرته، وأضوأه وهو صدره، وذلك وقت ارتفاع الشمس لأن المقسم لأجله أشرف الخلائق، وذلك يدل على أنه يبلغ من الشرف ما لا يبلغه أحد من الخلق‏.‏

ولما ذكر النهار بأشرف ما فيه مناسبة لأجل المقسم لأجله، أتبعه الليل مقيداً له بما يفهم إخلاصه لأنه ليس لأشرف ما فيه اسم يخصه فقال‏:‏ ‏{‏والّيل‏}‏ أي الذي به تمام الصلاة؛ ولما كان أوله وآخر النهار وآخره وأول النهار ضوءاً ممتزجاً بظلمة لالتفات ساق الليل بساق النهار، قيد بالظلام الخالص فقال‏:‏ ‏{‏إذا سجى *‏}‏ أي سكن أهله أو ركد ظلامه وإلباسه وسواده واعتدل فخلص فغطى بظلامه كل شيء، والمتسجي‏:‏ المتغطي، ومع تغطيته سكنت ريحه، فكان في غاية الحسن، ويمكن أن يكون الأول مشيراً إلى ما يأتي به هذا الرسول صلى الله عليه وسلم من المحكم، والثاني مشيراً إلى المتشابه، وهذا الأربعة الأحوال للنور والظلمة- وهي ضوء ممتزج بظلمة، وظلمة ممتزجة بضوء، وضياء خالص وظلام خالص- الحاصلة في الآفاق في الإنسان مثلها، فروحه نور خالص، وطبعه ظلام حالك، وقلبه نور ممتزج بظلمة النفس، والنفس ظلمة ممتزجة بنور القلب، فإن قويت شهوة النفس على نورانية القلب أظلم جميعه، وإن قويت نورانية القلب على ظلمة النفس صار نورانياً، وإن غلبت الروح على الطبع تروحن فارتفع عن رتبة الملائكة، وإن غلب الطبع على الروح أنزله عن رتبة البهائم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 179‏]‏‏.‏

ولما أقسم بهذا القسم المناسب لحاله صلى الله عليه وسلم، أجابه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما ودعك‏}‏ أي تركك تركاً يحصل به فرقة كفرقة المودع ولو على أحسن الوجوه الذي هو مراد المودع ‏{‏ربك‏}‏ أي الذي أحسن إليك بإيجادك أولاً، وجعلك أكمل الخلق ثانياً، ورباك أحسن تربية ثالثاً، كما أنه لا يمكن توديع الليل للنهار بل الضحى للنهار الذي هو أشد ضيائه، ولا يمكن توديع الضحى للنهار ولا الليل وقت سجوه له‏.‏

ولما كان ربما تعنت متعنت فقال‏:‏ ما تركه ولكنه لا يحبه، فكم من مواصل وليس بواصل، قال نافياً لكل ترك‏:‏ ‏{‏وما قلى *‏}‏ أي وما أبغضك بغضاً ما، وحذف الضمير اختصاراً لفظياً ليعم، فهو من تقليل اللفظ لتكثير المعنى، وذلك لأنه كان انقطاع عنه الوحي مدة لأنهم سألوه عن الروح وقصة أهل الكهف وذي القرنين فقال‏:‏ «أخبركم بذلك غداً»، ولم يستثن، فقالوا‏:‏ قد ودعه ربه وقلاه، فنزلت لذلك، ولما نزلت كبر صلى الله عليه وسلم فكان التكبير فيها وفيما بعدها سنة كما يأتي إيضاحه وحكمته آخرها، وقد أفهمت هذه العبارة أن المراتب التقريبية أربع‏:‏ تقريب بالطاعات ومحبة وهي للمؤمنين، وإبعاد بالمعاصي وبغض وهي للكفار، وتقريب بالطاعات مخلوط بتبعيد للمعاصي وهي لعصاة المؤمنين، وإعراض مخلوط بتقريب بصور طاعات لا قبول لها وهي لعباد الكفار‏.‏

وقال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير‏:‏ لما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فألهمها فجورها وتقواها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 8‏]‏ ثم أتبعه بقوله في الليل‏:‏ ‏{‏فسنيسره‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 7- 13‏]‏ وبقوله‏:‏ ‏{‏إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 7- 13‏]‏، فلزم الخوف واشتد الفزع وتعين على الموحد الإذعان للتسليم والتضرع في التخلص والتجاؤه إلى السميع العليم، أنس تعالى أحب عباده إليه وأعظمهم منزلة لديه، وذكر له ما منحه من تقريبه واجتبائه وجمع خير الدارين له فقال تعالى‏:‏ ‏{‏والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى وللآخرة خير لك من الأولى‏}‏ ثم عدد تعالى عليه نعمه بعد وعده الكريم له بقوله‏:‏ ‏{‏ولسوف يعطيك ربك فترضى‏}‏ وأعقب ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر‏}‏ فقد آويتك قبل تعرضك وأعطيتك قبل سؤالك، فلا تقابله بقهر من تعرض وانتهار من سأل، وقد حاشاه سبحانه عما نهاه عنه ولكنه تذكير بالنعم وليستوضح الطريق من وفق من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أما هو صلى الله عليه وسلم فحسبك من تعرف رحمته ورفقه ‏{‏وكان بالمؤمنين رحيماً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 43‏]‏ ‏{‏عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 128‏]‏ ثم تأمل استفتاح هذه السورة ومناسبة ذلك المقصود ولذلك السورة قبلها برفع القسم في الأولى بقوله‏:‏ ‏{‏والليل إذا يغشى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 1‏]‏ تنبيهاً على إبهام الأمر في السلوك على المكلفين وغيبة حكم العواقب، وليناسب هذا حال المتذكر بالآيات وما يلحقه من الخوف مما أمره غائب عنه من تيسيره ومصيره واستعصامه به يحصل اليقين واستصغار درجات المتقين، ثم لما لم يكن هذا غائباً بالجملة عن آحاد المكلفين أعني ما يثمر العلم اليقين ويعلي من أهل للترقي في درجات المتقين، بل قد يطلع سبحانه خواص عباده- بملازمته التقوى والاعتبار- على واضحة السبيل ويريهم مشاهدة وعياناً ما قد انتهجوا قبل سبيله بمشقة النظر في الدليل، قال صلى الله عليه وسلم لحارثة‏:‏

«وجدت فالزم» وقال مثله للصديق، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 64‏]‏ ‏{‏إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 30‏]‏ فلم يبق في حق هؤلاء ذلك الإبهام، ولا كدر خواطرهم بتكاثف ذلك الإظلام، بما منحهم سبحانه وتعالى من نعمة الإحسان بما وعدهم في قوله‏:‏ ‏{‏يجعل لكم فرقاناً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 29‏]‏ و‏{‏يجعل لكم نوراً تمشون به‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 28‏]‏ ‏{‏أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 122‏]‏ فعمل هؤلاء على بصيرة، واستولوا اجتهاداً بتوفيق ربهم على أعمال جليلة خطيرة، فقطعوا عن الدنيا الآمال، وتأهبوا لآخرتهم بأوضح الأعمال ‏{‏تتجافى جنوبهم عن المضاجع‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 16‏]‏ ‏{‏فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 17‏]‏ فلابتداء الأمر وشدة الإبهام والإظلام أشار قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏والليل إذا يغشى‏}‏ ولما يؤول إليه الحال في حق من كتب في قلبه الإيمان وأيده بروح منه أشار قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏والنهار إذا تجلى‏}‏ ولانحصار السبل وإن تشعبت في طريقي ‏{‏فمنكم كافر ومنكم مؤمن‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 2‏]‏ ‏{‏فريق في الجنة وفريق في السعير‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 7‏]‏ أشار قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وما خلق الذكر والأنثى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 3‏]‏ ‏{‏ومن كل شيء خلقنا زوجين‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 49‏]‏ ‏{‏ففروا إلى الله‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 50‏]‏ الواحد مطلقاً، فقد وضح لك إن شاء الله بعض ما يسر من تخصيص هذا القسم- والله أعلم، أما سورة الضحى فلا إشكال في مناسبة في استفتاح القسم بالضحى لما يسره به سبحانه لا سيما إذا اعتبر ما ذكر من سبب نزول السورة، وأنه صلى الله عليه وسلم كان قد فتر عنه الوحي حتى قال بعض الكفار‏:‏ قلى محمداً ربه، فنزلت السورة مشعرة عن هذه النعمة والبشارة- انتهى‏.‏

ولما ذكر حاله في الدنيا بأنه لا يزال يواصله بالوحي والكرامة، ومنه ما هو مفتوح على أمته من بعده روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «أريت ما هو مفتوح على أمتي من بعدي كَفراً كَفراً فسرني ذلك» فلما كان ذلك وكان ذكره على وجه شمل الدارين صرح بالآخرة التي هي أعلى وأجل، ولأدنى من يدخلها فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فكيف بما له صلىلله عليه وسلم، فقال مؤكداً لذلك كما أكد الأول بالقسم بما لهم فيه من الإنكار‏:‏ ‏{‏وللآخرة‏}‏ أي التي هي المقصود من الوجود بالذات لأنها باقية خالصة عن شوائب الكدر أو الحالة المتأخرة لك ليفهم منه أنه لا يزال في ترق من عليّ إلى أعلى منه وكامل إلى أكمل منه دائماً أبداً لا إلى نهاية ‏{‏خير‏}‏ وقيد بقوله‏:‏ ‏{‏لك‏}‏ لأنه ليس كل أحد كذلك ‏{‏من الأولى *‏}‏ أي الدنيا الفانية التي لا سرور فيها خالص كما أن النهار الذي هو بعد الليل خير منه وأشرف ولا سيما الضحى منه، وقد أفهم ذلك أن الناس على أربعة أقسام‏:‏ منهم من له الخير في الدارين وهم أهل الطاعة الأغنياء، ومنهم من له الشر فيهما وهم الكفرة الفقراء، ومنهم من له صورة خير في الدنيا وشر الآخرة وهم الكفرة الأغنياء، ومنهم من له صورة شر في الدنيا وخير في الآخرة وهم المؤمنون الفقراء، قد قال‏:‏

الناس في الدنيا على أربع *** والنفس في فكرتهم حائره

فواحد دنياه مقبوضة *** إن له من بعدها آخره

وواحد دنياه مبسوطة *** ليس له من بعدها آخره

وواحد قد حاز حظيهما *** سعيد في الدنيا وفي الآخره

وواحد يسقط من بينهم *** فذلك لا دنيا ولا آخره

ولما ذكر سبحانه الدنيا والآخرة، ذكر ما يشملهما مما زاده من فضله، فقال مصدراً بحرف الابتداء تأكيداً للكلام لأنهم ينكرونه وليست للقسم لأنها إذا دخلت على المضارع لزمته النون المؤكدة، وضم هذه اللام إلى كلمة التنفيس للدلالة على أن العطاء وإن تأخر وقته لحكمة كائن لا محالة‏:‏ ‏{‏ولسوف يعطيك‏}‏ أي بوعد لا خلف فيه وإن تأخر وقته بما أفهمته الأداة ‏{‏ربك‏}‏ أي الذي لم يزل يحسن إليك بوعد الدنيا ووعد الآخرة ‏{‏فترضى *‏}‏ أي فيتعقب على ذلك ويتسبب عنه رضاك‏.‏ وهذا شامل لما منحه بعد كمال النفس من كمال العلم وظهور الأمر وإعلاء الدين وفتح البلاد ودينونة العباد ونقص ممالك الجبابرة، وإنهاب كنوز الأكاسرة والقياصرة، وإحلال الغنائم حتى كان يعطي عطاء من لا يخاف الفقر، وشامل لما ادخره له سبحانه وتعالى في الآخرة من المقام المحمود والحوض المورود، والشفاعة العظمى إلى غير ذلك مما لا يدخل تحت الحدود، وقد أفهمت العبارة أن الناس أربعة أقسام‏:‏ معطى راض، وممنوع غير راض، ومعطى غير راض، وممنوع راض، وعن علي رضي الله عنه أنها أرجى آية في القرآن لأنه صلى الله عليه وسلم لا يرضى واحداً من أمته في النار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 11‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى ‏(‏6‏)‏ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ‏(‏7‏)‏ وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى ‏(‏8‏)‏ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ‏(‏9‏)‏ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ‏(‏10‏)‏ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ‏(‏11‏)‏‏}‏

ولما وعده بأنه لا يزال في كل لحظة يرقيه في مراقي العلا والشرف، ذكره بما رقاه به قبل ذلك من حين توفي أبوه وهو حمل وماتت أمه وهو ابن ثمان سنين، فتم يتمه من الأبوين قبل بلوغه لئلا يكون عليه- كما قال جعفر الصادق- حق لمخلوق، فقال مقرراً له‏:‏ ‏{‏ألم يجدك‏}‏ أي يصادفك أي يفعل بك فعل من صادف آخر حال كونه ‏{‏يتيماً فآوى *‏}‏ ولما كان يلزم من اليتم في الغالب عدم العلم لليتيم لتهاون الكافل، ومن عدم العلم الضلال، قال مبيناً أن يتمه وإهماله من الحمل على دينهم كان نعمة عظيمة عليه لأنه لم يكن على دين قومه في حين من الأحيان أصلاً‏:‏ ‏{‏ووجدك‏}‏ أي صادفك ‏{‏ضالاً‏}‏ أي لا تعلم الشرائع ‏{‏ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52‏]‏ فأطلق اللازم وهو الضلال على الملزوم، والمسبب على السبب، وهو عدم العلم، فكنت لأجل ذلك لا تقدم على فعل من الأفعال لأنك لا تعلم الحكم فيه إلا ما علمت بالعقل الصحيح والفطرة السليمة المستقيمة من التوحيد وبعض توابعه، وهذا هو التقوى كما تقدم في الفاتحة، ولم يرد به حقيقته وإنما أعراه من التعلق بشيء من الشرائع ونحوها بإعدام من يحمله على ذلك ليفرغه ذلك التأمل بنفسه فيوصله بعقله السديد إلى الاعتقاد الحق في الأصول والوقوف في الفروع ‏{‏فهدى *‏}‏ أي فهداك هدى محيطاً بكل علم، فعلمك بالوحي والإلهام والتوفيق للنظر ما لم تكن تعلم‏.‏

ولما كان العيال يمنعون من التفرغ لعلم أو غيره قال‏:‏ ‏{‏ووجدك‏}‏ أي حال كونك ‏{‏عائلاً‏}‏ أي ذا عيال لا تقدر على التوسعة عليهم أو فقيراً، قال ابن القطاع‏:‏ عال الرجل‏:‏ افتقر، وأعال‏:‏ كثر عياله‏.‏ ‏{‏فأغنى *‏}‏ بما جعل لك من ربح التجارة ثم من كسب الغنائم وقد أفهم ذلك أن الناس أربعة أقسام‏:‏ منهم من وجد الدين والدنيا، ومنهم من عدمهما، ومنهم من وجد الدين لا وجد الدنيا، ومنهم من وجد الدنيا لا الدين‏.‏ ولما ذكره بما أنعم عليه به من هذه النعم الثلاث أوصاه بما يفعل في ثلاث مقابلة لها، فقال مسبباً عنه مقدماً معمول ما بعد الفاء عليها اهتماماً‏:‏ ‏{‏فأما اليتيم‏}‏ أي هذا النوع ‏{‏فلا تقهر *‏}‏ أي تغلبه على شيء فإنما أذقتك اليتم تأديباً بأحسن الآداب لتعرف ضعف اليتيم وذله، وفوق ذلك كفالته وهي خلافة عن الله لأن اليتيم لا كافل له إلا الله، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أنا وكافل اليتيم كهاتين»- وأشار بالسبابة والوسطى‏.‏

ولما بدأ بما كان بداية له، ثنى بما هو نهاية له من حيث كونه يصير رأس الخلق فيصير محط الرجال في كل سؤال من علم ومال، فقال مقدماً له اهتماماً به إشارة إلى أنه جبر الخواطر واستئلاف الخلق من أعظم المقاصد في تمام الدين‏:‏ ‏{‏وأما السائل‏}‏ أي الذي أحوجته العيلة أو غيرها إلى السؤال ‏{‏فلا تنهر *‏}‏ أي تزجر زجراً مهيناً، فقد علمت مضاضة العيلة، بل أعطه ولو قليلاً، أو رده رداً جميلاً، وكذا السائل في العلم‏.‏

ولما ذكر له تفصيل ما يفعل في اليتيم والفقير والجاهل، أمره بما يفعل في العلم الذي آتاه إياه إعلاماً بأنه الآلة التي يستعملها في الأمرين الماضيين وغيرهما لأنها أشرف أحوال الإنسان وهي أوفق الأمور لأن يكون مقطع السورة لتوافق مطلعها فقال‏:‏ ‏{‏وأما بنعمة ربك‏}‏ أي الذي أحسن إليك بإصلاح جميع ما يهمك من العلم وغيره وبالهجرة ومبادئها عند تمام عدد آيها من السين وهي إحدى عشرة ‏{‏فحدث *‏}‏ أي فاذكر النبوة وبلغ الرسالة فاذكر جميع نعمه عليك فإنها نعم على الخلق كافة، ومنها إنقاذك بالهجرة من أيدي الكفرة وإعزازك بالأنصار، وتحديثك بها شكرها، فإنك مرشد يحتاج الناس إلى الاقتداء بك، ويجب عليهم أن يعرفوا لك ذلك ويتعرفوا مقدارك ليؤدوا حقك، فحدثهم أني ما ودعتك ولا قليتك، ومن قال ذلك فقد خاب وافترى، واشرح لهم تفاصيل ذلك بما وهبتك من العلم الذي هو أضوأ من ضياء الضحى وقد رجع آخرها على أولها بالتحديث بهذا القسم والمقسم لأجله، وما للملك الأعلى في ذلك من عميم فضله‏:‏ ولقد امتثل صلى الله عليه وسلم وابتدأ هذا التحديث الذي يشرح الصدور، ويملأ الأكوان من السرور، والنعمة والحبور، لأنه بأكبر النعم المزيلة لكل النقم بالتكبير كما ورد في قراءة ابن كثير وفي رواية السوسي عن أبي عمرو، واختلف القراء في ابتدائه وانتهائه ولفظه، فقال بعضهم‏:‏ هو من أول الضحى، وقال آخرون‏:‏ من آخرها، وقال غيرهم من أول الشرح، فمن قال للأول لم يكبر آخر الناس، ومن قال للآخر انتهى تكبيره بالتكبير في آخرها، وسببه أن جبريل عليه الصلاة والسلام لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعد فترة الوحي، فتلا السورة عليه كبر مسروراً لما كان أحزنه من الفترة ومن قول المشركين‏:‏ قلاه ربه، وتحديثاً بالنعم التي حباه الله بها في هذه السورة له ولأمته امتثالاً لما أمر به واختلف عنهم في لفظه، فمنهم من اقتصر على «الله أكبر» ومنهم من زاد التهليل فقال‏:‏ «لا إله إلا الله والله أكبر» وهذا هو المستعمل، ومنهم من زاد «ولله الحمد» والراجح قول من قال‏:‏ إنه لآخر الضحى إسناداً ومعنى، لأنها وإن كانت هي السبب والعادة جارية بأن من دهمه أمر عظيم يكبر مع أوله، لكن شغله صلى الله عليه وسلم بالإصغاء إلى ما يوحى إليه منعه من ذلك، فلما ختمت السورة تفرغ له، فكان ذلك الوقت كأنه ابتداء مفاجأة ذلك الأمر العظيم له، وزاد ما في السورة من جلائل النعم المقتضية للتحميد وما في ذلك من بدائع الصنع الموجب للتهليل، وقد علم بذلك سبب من ظنه في أولها، وأما من ظنه لأول الشرح فكونه كان في آخر الضحى، فإذا وصل بها «ألم نشرح» ألبس الحال، وتعليق الأشياء بالأوائل هو الأمر المعتاد، وحكمته مع ما مضى من سببه أن التهليل توحيده سبحانه وتعالى بالأمر، وامتناع شريك يمنعه من شيء يريده من الوحي وغيره، والتكبير تفريده له بالكبرياء تنزيهاً له عن شوب نقص يلم به من أن يتجدد له علم ما لم يكن ليكون ذلك سبباً لقطع من وصله بوحي أو غيره، والتحميد إثبات التفرد بالكمال له على إسباغ نعمه، وفي ذلك أن هذه السورة آذنت بأن القرآن أشرف على الختام، لأن عادة الحكماء من المدبرين تخفيف المنازل في الأواخر على السائرين كتخفيف أول مرحلة رفقاً بالمقصرين، فناسب الذكر بهذا عند الآخر لأن تذكر الانقضاء يهيج مثل ذلك عند السالك، ولأن تقصير السور ربما أوهم شيئاً مما لا يليق، فسن التنزيه بتكبيره سبحانه وتعالى عن كل ما يوهم نقصاً، وإثبات الكمال له بالتوحيد منبه على الحث على تدبر ما في هذه السورة من الجمع للمعاني على وجازتها وقصر آياتها وحلاوتها مع ما في ذلك من تخفيف التعليم، والتدريب على الحفظ في المبادئ والتحبيب فيه والتهييم، والتحميد على إتمام النعمة على غاية الإحكام من لدن حكيم عليم‏.‏

سورة الشرح

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ‏(‏1‏)‏ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ‏(‏2‏)‏ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ‏(‏3‏)‏ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ‏(‏4‏)‏ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ‏(‏5‏)‏ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ‏(‏6‏)‏ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ‏(‏7‏)‏ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ‏(‏8‏)‏‏}‏

ولما أمره صلى الله عليه وسلم آخر الضحى بالتحديث بنعمته التي أنعمها عليه فصلها في هذه السورة فقال مثبتاً لها في استفهام إنكاري مبالغة في إثباتها عند من ينكرها والتقرير بها مقدماً المنة بالشرح في صورته قبل الإعلام بالمغفرة كما فعل ذلك في سورة الفتح الذي هو نتيجة الشرح، لتكون البشارة بالإكرام أولاً لافتاً القول إلى مظهر العظمة تعظيماً للشرح‏.‏ ‏{‏ألم نشرح‏}‏ أي شرحاً يليق بعظمتنا ‏{‏لك‏}‏ أي خاصة‏.‏

ولما عين المشروح له، فكان المشروح مبهماً، فزاد تشوف النفس إليه ليكون أضخم له، بينه ليكون بياناً بعد إبهام فيكون أعظم في التنويه به وأجل في التعريف بأمره فقال‏:‏ ‏{‏صدرك *‏}‏ أي نسره ونفرحه بالهجرة، فإن هذه السورة مدنية عند ابن عباس رضي الله عنهما، ونجله ونعظمه ونخرج منه قلبك ونشقه ونغسله ونملأه إيماناً وحكمة ورأفة وعلماً ورحمة، فانفسح جداً حتى وسع مناجاة الحق ودعوة الخلق، فكان مع الحق بعظمته وارتفاعه، ومع الخلق بفيض أنواره وشعاعه، وقد كان هذا الشرع حقيقة مراراً، وكان مجازاً أيضاً بإحلال جميع معانيه، وكل ذلك على ما لا يدخل تحت الوصف لا يعبر لكم عنه بأثر من أنه شق بعظمتنا، فالعلم الذي شق به معرفة الله والدار الآخرة والدين والدنيا، والحمة التي درّت فيه هي وضع الشيء في محله، وإعطاء كل ذي حق حقه، وقرأ أبو جعفر المنصور بفتح جاء «نشرح» وخرجها ابن عطية على التأكيد بالنون الخفيفة ثم أبدل ألف من النون، ثم حذف النون تخفيفاً، وقال أبو حيان بأن اللحياني حكى في نوادره عن بعض العرب النصب بلم والجزم بلن، وسره هنا أن الفتح في اللفظ مناسب غاية المناسب للشرح، ووجه قراءة الجمهور أنه لما دل على الفتح بالشرح دل بالجزم على أنه مع ذلك رابط لما أودعه من الحكم ضابط له، هاد بما فيه من رزانة العلم، ووقار التقى والحلم، قال ابن برجان‏:‏ ففرق ما بين النبي والولي في ذلك أن النبي شرح صدره ظاهراً فأعلى ظاهراً، والولي شرح ذلك منه باطناً فعلى به باطناً، والكافر ضيق ذلك منه وأبقى بظلمته وحظوظ الشيطان منه فهو لا يستطيع قبول الهداية ولا الصعود في معارج العبرة إلا على مقدار ما يستطيع الصعود في السماء ‏{‏كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 125‏]‏‏.‏

ولما كانت سعة الصدر بالعلم والحكمة هي الجمال باجتماع المحاسن، وكان ذلك مع حمل ما يعني من أعظم النكد، وكان الجمال بجمع المحاسن لا يكمل إلا إذا جمع إلى الجمال الجلال بانتفاء الرذائل، وكان الاستفهام الإنكاري إذا اجتمع مع النفي صار إثباتاً، لأنه نفي للنفي، قال عاطفاً عليه ما لا يعطف إلا مع الإثبات ‏{‏ووضعنا‏}‏ أي حططنا وأسقطنا وأبطلنا حطاً لا رجعة له ولا فيه بوجه بما لنا من العظمة، مجاوزاً ‏{‏عنك وزرك *‏}‏ أي حملك الثقيل الذي لا يستطاع حمله، ولذلك وصفه بقوله‏:‏ ‏{‏الذي أنقض ظهرك *‏}‏ أي جعله وهو عماد بدنك تصوت مفاصله من الثقل كما يصوت الرحل الجديد إذا لز بالحمل الثقيل، وذلك هو ما دهمه عندما أمر بإنذار قومه ومفاجأتهم بما يكرهون عن عيب دينهم وتضليل آبائهم وتسفيه حلومهم في التدين بدين لا يرضاه أدنى العقلاء إذا تأمل شيئاً من تأمل مع التجرد من حظ النفس مع ما عندهم من الأنفة والحمية وإلقاء الأنفس في المهالك لأدنى غضب، فقال‏:‏

«يا رب إذن يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة» فخفف سبحانه وتعالى عنه ذلك بما أظهر له من الكرامات وأيده به من المعجزات، وضمن له من الحماية إلى أمور لا يحيط بها علماً إلا الذي أيده بها ‏{‏والله يعصمك من الناس‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏ حتى خف ذلك عليه، فصار أشفق أهله عليه يمنعه من بعض الإبلاغ ويمسك بثوبه لئلا يخرج إلى النار فيقول لهم ذلك فيحصل له ما يكره فيجذب نفسه منه ويخرج إليهم فيخبرهم كما وقع في أمر الإسراء وغيره، وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ هو أن جبريل عليه الصلاة والسلام شق صدره فأخرج منه قلبه فشرحه وأخرج منه علقة سوداء فأنقاه وغسله ثم ملأه علماً وإيماناً وحكمة، يعني فصار يحتمل ما لا يحتمله غيره، وخف عليه ما يثقل على غيره، ولا شك أن ذلك وزر لغوي، وهو واضح، وشرعي بالمال على تقدير ترك الامتثال اللازم للاستثقال، وقد أعاذه الله من ذلك‏.‏

وقال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير‏:‏ معنى هذه السورة من معنى السورة قبلها، وحاصل السورتين تعداد نعمه سبحانه وتعالى عليه، فإن قلت‏:‏ فلم فصلت سورة ألم نشرح ولم ينسق ذكر هذه النعم في سورة واحدة، قلت‏:‏ من المعهود في البشر فيمن عدد على ولده أو عبده نعماً أن يذكر له أولاً ما شاهد الحصور عليه منها بسببه مما يمكن أن يتعلق في بعضها بأن ذلك وقع جزاء لا ابتداء، فإذا استوفى له ما قصده من هذا، أتبعه بذكر نعم ابتدائية قد كان ابتداؤه بها قبل وجوده كقول الأب مثلاً لابنه‏:‏ ألم أختر لأجلك الأم والنفقة حيث استولدتك وأعددت من مصالحك كذا وكذا، ونظير ما أشرنا إليه بقوله سبحانه لزكريا عليه الصلاة والسلام ‏{‏ولم تك شيئاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 9‏]‏ وقد قدم له ‏{‏إنا نبشرك بيحيى‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 7‏]‏ والية ‏{‏إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى‏}‏ وتوهم استبداد الكسبية في وجود الولد غير خافية في حق من قصر نظره ولم يوفق فابتدئ بذكرها ثم أعقب بما لا يمكن أن يتوهم فيه ذلك، وهو قوله‏:‏

‏{‏وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 9‏]‏ وله نظائر من الكتب وعليه جاء ما ورد في هاتين السورتين- والله أعلم- انتهى‏.‏

ولما شرفه في نفسه بالكمال الجامع للجلال إلى الجلال، وكان ذلك لا يصفو إلا مع الشرف عند الناس قال‏:‏ ‏{‏ورفعنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة والقدرة الباهرة ‏{‏لك‏}‏ أي خاصة رفعة تتلاشى عندها رفعة غيرك من الخلق كلهم ‏{‏ذكرك *‏}‏ عند جميع العالمين العقلاء وغيرهم بالصدق والأمانة والحلم والرزانة ومكارم الأخلاق وطهارة الشيم وانتفاء شوائب النقص حتى ما كانت شهرتك عند قومك قبل النبوة إلا الأمين، وكانوا يضربون المثل بشمائلك الطاهرة، وأوصافك الزاهرة الباهرة، ثم بالنبوة ثم بالرسالة ثم بالهجرة، وبأن جعلنا اسمك مقروناً باسمنا في كلمة التوحيد والإيمان والأذان والإقامة والتشهد والخطبة، فلا أذكر إلا وذكرت معي، ومن الكرامة الظفر على أعدائك والكرامة لأوليائك، وجعل رضاك رضاي وطاعتك طاعتي، وأمر ملائكتي بالصلاة عليك، ومخاطبتي لك بالألقاب العلية والسمات المعزة المعلية من الرسول والنبي، ونحو ذلك على حسب الأساليب ومناسبات التراكيب إلى غير ذلك من فضائل ومناقب وشمائل لا تضبط بالوصف، قال الرازي‏:‏ ثم جعل لأمته من ذلك أوفر الحظ، قيل‏:‏ يا رسول الله، من أولياء الله‏؟‏ قال‏:‏ «الذين إذا ذُكروا ذُكر الله» وفي حديث‏:‏ «الذين إذا رُؤُوا ذُكر الله» وقال‏:‏ «خياركم من تذكر الله رؤيته، ويزيد في علمكم منطقه، ويزهدكم في الدنيا عمله» فمنتهى قسمة الثناء أن خلط ذكره بذكره‏.‏

ولما ذكر هذه المآثر الشريفة التي هي الكمال، وكان الكمال لا يصفو إلا مع مساعدة الأقدار، فإن الهمم إذا عظمت اتسعت مجالاتها، فإذا حصل فيها تعطيل حصل فيها نكد حسبه، بين أنه أزال عنه العوائق في عبارة دالة على أن سبب المنحة بهذه الكمالات هو ما كان صلى الله عليه وسلم فيه من الصبر على الأكدار، وتجرع مرارات الأقدار، فقال مؤكداً ترغيباً في حمل مثل ذلك رجاء في الإثابة بما يليق من هذه المعالي مبالغاً في الحث على تحمله بذكر المعية إشارة إلى تقارب الزمنين بحيث إنهما كانا كالمتلازمين مسبباً عما مضى ذكره من حاله من الضحى‏:‏ ‏{‏فإن‏}‏ أي فعل بك سبحانه هذه الكمالات الكبار بسبب أنه قضى في الأزل قضاء لا مرد له ولا معقب لشيء منه أن ‏{‏مع العسر‏}‏ أي هذا النوع خاصة ‏{‏يسراً *‏}‏ أي عظيماً جداً يجلب به المصالح ويشرح به ما كان قيده من القرائح، فإن أهل البلاء ما زالوا ينتظرون الرخاء علماً منهم بالفطرة الأولى التي فطر الناس عليها أنه المتفرد بالكمال، وأنه الفاعل بالاختيار لنسمه الكوائن بأضدادها، وقد أجرى سنته القديمة سبحانه وتعالى بأن الفرج مع الكرب، فلما قاسى صلى الله عليه وسلم مما ذكر في الضحى من اليتم الشديد وضلال قومه العرب خاصة كلهم الذين ألهمه الله تعالى مخالفتهم في أصل الدين بتجنب الأوثان، وفي فرعه بالوقوف مع الناس في الحج في عرفة موقف إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ومن العيلة ما لم يحمله أحد حتى كان بحيث يمتن سبحانه وتعالى عليه بإنقاذه منه في كتابه القديم وذكره الحكيم، وكان مع تحمل ذلك قائماً بما يحق له من الصبر ويعلو إلى معالي الشكر «فيحمل»- كما قالت الصديقة الكبرى خديجة رضي الله تعالى عنها- «الكَلَّ، ويقري الضيف، ويصل الرحم، ويعين على نوائب الحق»‏.‏

ثم حمل أعباء النبوة فكان يلقى من قومه من الأذى والكرب والبلاء ما لم يحمله غيره، بشره الله تعالى بأنه ييسر له جميع ذلك ويلين قلوبهم فيظهر دينه على الدين كله، ويغني أصحابه رضي الله عنهم بعد عيلتهم، ويكثرهم بعد قلتهم، ويعزهم بعد ذلتهم، ويصير هؤلاء المخالفون له أعظم الأعضاد، وينقاد له المخالف أتم انقياد، ويفتح له أكثر البلاد، ليكون هذا العطاء في اليسر بحسب ما كان وقع من العسر، فإنه قضى سبحانه وتعالى قضاء لا يرتد أنه يخالف بين الأحوال، دليلاً قاطعاً على أنه تعالى وحده الفعال، وأن فعله بالاختيار، لا بالذات والإجبار‏.‏

ولما كان العسر مكروهاً إلى النفوس، وكان لله سبحانه وتعالى فيه حكماً عظيمة، وكانت الحكم لا تتراءى إلا للأفراد من العباد، كرره سبحانه وتعالى على طريق الاستئناف لجواب من يقول‏:‏ وهل بعده من عسر‏؟‏ مؤكداً له ترغيباً في أمره ترقباً لما يتسبب عنه مبشراً بتكريره مع وحدة العسر وإن كان حمل كل واحد منهما على شيء غير ما قصد به الآخر ممكناً فقال‏:‏ ‏{‏إن مع العسر‏}‏ أي المذكور فإنه معرفة، والمعرفة إذا أعيدت معرفة كانت غير الأولى سواء أريد العهد أو الجنس ‏{‏يسراً *‏}‏ أي آخر لدفع المضار والمكاره، فإن النكرة إذا أعيدت نكرة احتمل أن تكون غير الأولى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنها غيرُها» فقال الحسن البصري‏:‏ إن الآية لما نزلت قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أتاكم اليسر لن يغلب عسر يسرين» وقد روى هذا من أوجه كثيرة، وروى عبد الرزاق عن ابن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ «لو كان العسر في جحر ضب لتبعه اليسر حتى يخرجه» وللطبراني عنه رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لو كان العسر في جحر لدخل عليه اليسر حتى يخرجه» ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية، قال الحافظ نور الدين الهيثمي‏:‏ وفيه أبو مالك النخعي وهو ضعيف، ورواه الطبراني أيضاً في الأوسط والبزار عن أنس رضي الله عنه بنحوه، قال الهيثمي‏:‏ وفيه عائذ بن شريح وهو ضعيف، وروى الفراء عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم وهو يضحك ويقول‏:‏

«لن يغلب عسر يسرين» وروى عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن الحسن به مرسلاً، ومن طريقه أخرجه الحاكم والبيهقي في الشعب ورواه الطبري من طريق ابن ثور عن معمر، ورواه ابن مردويه من طريق أخرى موصولاً وإسناده ضعيف، وفي الباب عن عمر ذكره مالك في الموطإ عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر رضي الله عنه أنه بلغه أن أبا عبيدة رضي الله عنه حضر بالشام فكتب إليه كتاباً فيه «ولن يغلب عسر يسرين» ومن طريقه رواه الحاكم، قال ذلك شيخنا ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف، وقال‏:‏ وهذا أصح طرقه- انتهى، وهذا من جهة أن اليسر نكرة والعسر معرفة، وقد اشتهر أن النكرة إذا أعيدت نكرة فالثاني غير الأول، والمعرفة بالعكس، قال الشيخ سعد الدين التفتازاني في أول تلويحه في الكلام على المعرفة والنكرة‏:‏ الكلام فيما إذا أعيد اللفظ الأول إما مع كيفيته من التنكير والتعريف أو بدونها، وحينئذ يكون طريق التعريف هو اللام أو الإضافة ليصح إعادة المعرفة نكرة وبالعكس، وتفصيل ذلك أن المذكور أولاً إما أن يكون نكرة أو معرفة، وعلى التقديرين إما أن يعاد نكرة أو معرفة فيصير أربعة أقسام، وحكمها أن ينظر إلى الثاني، فإن كان نكرة فهو مغاير للأول، وإلا لكان المناسب هو التعريف بناء على كونه معهوداً سابقاً بالذكر، إن كان معرفة فهو الأول حملاً له على المعهود الذي هو الأصل في اللام والإضافة، وذكر في الكشف أنه إذا أعيدت النكرة نكرة فالثاني مغاير للأول وإلا فعينه فإن المعرفة تستغرق الجنس، والنكرة تتناول البعض، فيكون داخلاً في الكل سواء قدم أو أخر، وفيه نظر، أما أولاً فلان التعريف لا يلزم أن تكون للاستغراق بل العهد هو الأصل، وعند تقدم المعهود لا يلزم أن تكون النكرة عينه، وأما ثانياً فلان معنى كون الثاني عين الأول أن يكون المراد به هو المراد بالأول، والجزء بالنسبة إلى الكل ليس كذلك، وأما ثالثاً فإن إعادة المعرفة نكرة مع مغايرة الثاني للأول كثير في الكلام، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم آتينا موسى الكتاب تماماً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 154‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وهذا كتاب أنزلناه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 155‏]‏ وقال تعالى‏:‏ «اهبطوا بعضكم لبعض عدو» ‏[‏البقرة‏:‏ 36‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ورفع بعضكم فوق بعض درجات‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 165‏]‏ إلى غير ذلك، وقال غيره‏:‏ ‏{‏أيسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 153‏]‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

إذا الناس ناس والزمان زمان *** فإن الثاني لو كان عين الأول لم يكن في الإخبار به فائدة- انتهى‏.‏

قال‏:‏ واعلم أن المراد أن هذا هو الأصل عند الإطلاق وخلو المقام عن القرائن وإلا فقد تعاد النكرة مع عدم المغايرة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 84‏]‏ ‏{‏وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 37‏]‏ ‏{‏ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 54‏]‏ يعني قوة الشباب، ومنه باب التأكيد اللفظي، وقد تعاد النكرة معرفة مع المغايرة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهذا كتاب أنزلناه مبارك‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 156‏]‏ وقال غيره‏:‏ ‏{‏فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 128‏]‏ المراد بالنكرة خاص وهو الصلح بين الزوجين، وبالمعرفة عام في كل صلح جائز ‏{‏زدناهم عذاباً فوق العذاب‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 88‏]‏ فإن الشيء لا يكون فوق نفسه- انتهى‏.‏ قال‏:‏ وقد تعاد المعرفة معرفة مع المغايرة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏ وقال غيره‏:‏ ‏{‏قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 26‏]‏ الأول عام والثاني خاص، ‏{‏هل جزاء الإحسان إلا الإحسان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 60‏]‏ الأول العمل والثاني الثواب ‏{‏وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 45‏]‏ الأولى القاتلة والثانية المقتولة- انتهى، قال‏:‏ وقد تعاد المعرفة نكرة مع عدم المغايرة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنما إلهكم إله واحد‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 110‏]‏ ومثله كثير، والمعرفة مثل النكرة في حالتي الإعادة معرفة والإعادة نكرة في أنها إن أعيدت معرفة كان الثاني هو الأول، وإن أعيدت نكرة كان غيره، ثم مثل بالآية التي هنا، وقال‏:‏ وهذا مبني على أن تنكير ‏{‏يسراً‏}‏ للتفخيم وتعريف العسر للعهد، أي العسر الذي أنتم عليه أو الجنس أي الذي يعرفه كل أحد، فيكون اليسر الثاني مغايراً للأول بخلاف العسر- انتهى‏.‏ وقال في الكشاف‏:‏ وأما اليسر فمنكر متناول لبعض الجنس، فإذا كان الكلام الثاني مستأنفاً عن منكر تناول بعضاً غير البعض الأول بغير الإشكال‏.‏

ولما علم من هذا أن المواد تكون بحسب الأوراد الشداد لما على الممدود من الشكر، ولما علم للشاكر من الوعد بالمزيد، قال مسبباً عما أعطاه من اليسر بعد ذلك العسر ندباً له إلى الشكر وإعلاماً بأنه لا ينفك عن تحمل أمر في الله‏:‏ ‏{‏فإذا فرغت‏}‏ أي بما آتاك من اليسر يسر من جهادك الذي أنت فيه في وقت المخاطبة بهذا الكلام مما يوجب عسراً في المآل أو الحال، وعقبه العسر في أي موضع كان لا سيما عند دخول الناس في الدين أفواجاً، أو من العبادة الثقيلة العظيمة بسماع الوحي وتحمله، أو من الغرض بالتيسير الذي بشرناك به ‏{‏فانصب *‏}‏ أي بالغ في التعب بعبادة أخرى من التسبيح والاستغفار، أو النفل لمن أولاك هذا المعروف ‏{‏وإلى ربك‏}‏ أي المحسن إليك بما ذكر في هاتين السورتين خاصة ‏{‏فارغب *‏}‏ أي بالسؤال لأنه القادر وحده كما قدر على تربيتك فيما مضى وحده، لأنه المختص بالعظمة، فلا قدرة أصلاً إلا لمن يعطيه ما يريده منها، والرغب شعار العبد دائماً في كل حال أي افعل ذلك ‏{‏ألم نشرح لك صدرك‏؟‏‏}‏ فقد اتصل هذا الآخر بالأول اتصال المعلول بالعلة، ولاءم ما بعدها بذلك أيضاً بعينه ملاءمة الشمس بالأهلة، وآخر هذه السورة مشير إلى الاجتهاد في العبادة عند الفراغ من جهاد الكفار في جزيرة العرب بعد انقضاء ما يوازي عدد آي هذه السورة من السنين بعد الهجرة، وهي ثمان، رغبة في الأخرى التي هي خير من الأولى، إشارة إلى قرب الأجل بما أشارت إليه سورة النصر- كما سيأتي إن شاء الله تعالى‏.‏

سورة التين

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ‏(‏1‏)‏ وَطُورِ سِينِينَ ‏(‏2‏)‏ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ‏(‏3‏)‏ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ‏(‏4‏)‏ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ‏(‏5‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ‏(‏6‏)‏ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ ‏(‏7‏)‏ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

ولما كان التين أحسن الفواكه تقويماً فيما ذكروا من فضيلته، وهو مع كونه فاكهة شهية حلوة جداً- غذاء يقيم الصلب وقوت كالبر وسريع الهضم، ودواء كثير النفع يولد دماً صالحاً وينفع الرئة والكلى ويلين الطبع ويحلل البلغم ويزل رمل المثانة ويفتح سدد الكبد والطحال، فكان جامعاً لجميع منافع المتناولات من الغذاء والتفكه والتحلي والتداوي، فهو كامل في مجموع ما هو فيه من لذة طعمه وكثرة نفعه، وكونه كفاكهة الجنة بلا شائبة تعوق عن أكله من صنوان يتعب أو نوى يرمى، مع أنه ينتفع به رطباً ويابساً، وهو مع ذلك في سرعة فساده وسوء تغيره أسفلها رتبة وأردؤها مغبة، فهو كالفطرة الأولى في مبدئه سهولة وحسناً وقبولاً لكل من الإصلاح والتغير، كآخر الهرم عند نهايته في عظيم تغيره بحيث إنه لا ينتفع بشيء منه إذا تغير، وغيره من الفواكه إذا فسد جانب منه بقي آخر فكان في هذا كالقسم للسافل من الإنسان أقسم الله تعالى به فقال‏:‏ ‏{‏والتين‏}‏ بادئاً به لأن القسم المشار به إليه أكثر، فالاهتمام به أكبر‏.‏

ولما كان الزيتون في عدم فساد يطرقه أو تغير يلحقه، وفيه الدسومة والحرافة والمرارة، وهو إدام ودواء مع تهيئه للنفع بكل حال في أكله بعد تزييته والتنوير بدهنه والادهان به لإزالة الشعث وتنعيم البشرة وتقوية العظم وشد العصب وغير ذلك من المنافع مع لدنه وما يتبع ذلك من فضائله الجمة كالمؤمن تلاه به فقال‏:‏ ‏{‏والزيتون *‏}‏ ولما كان مع ذلك مشاراً بهما إلى مواضع نباتهما وهي الأرض المقدسة من جميع بلاد الشام إيماء إلى من كان بها من الأنبياء والتابعين لهم بإحسان لا سيما إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي كانت مهاجره فأحياها الله تعالى بعباده وتردد الملائكة إليه بالوحي ومن بعده أولاده الذين طهرها الله بهم من الشرك وأنارها بهم بالتوحيد، وختمهم بعيسى عليه الصلاة والسلام أحد أولي العزم المشرف بكونه من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، وكانت الكناية بالشجرتين عن البلد المراد به سكانه أبلغ من التصريح بالمراد من أول وهلة، ساقه على هذا المنهج العزيز، ولم يبق ممن لم يسكنها من أشرافهم إلا موسى وهارون وإسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام، فأشار إلى الأولين بقوله معبراً بما يدل على أحسن التقويم لأن الطور الجبل ذو النبت من النجم والشجر المثمر وغيره‏:‏ ‏{‏وطور‏}‏ أي جبل المكان المسمى بهذا الاسم‏.‏

ولما كان الكلام في التقويم، كان المناسب له صورة جمع السلامة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏سينين *‏}‏ أي وما كان بالجبل ذي النبت الحسن الذي كلم الله فيه موسى عليه الصلاة والسلام من لذيذ المناجاة وعجائب المواعدة وحكم الكلام مع أن فيه من الأشجار والأماكن ما يكنّ من الحر والبرد، وفيه لخلوه وحسنه وعلوه جمع الخاطر للمتفرد وطمأنينة النفس للتخلي للعبادة والتحصن مما يخشى لعلوه وصعوبته، وفيه ما يصلح للزرع من غير كلفة، وفيه ما يأكله الناس والدواب مع الماء العذب والفناء الرحب والمنظر الأنيق، وسنين وسيناء- اسم للموضع الذي هذا الجبل به، وأشار سبحانه وتعالى إلى الأخيرين من أولاد إبراهيم عليه الصلاة والسلام ختاماً للقسم بأكمل المقسم به كما جعل المنزل عليه ذلك الذي هو ختام الرسل أكمل النوع المقسم لأجله ليكون في البدء بما يرد بعد حسن التقويم الى الفساد والختم بما هو أشرف المذكورين بكل اعتبار طباق حاز أعلى الأسرار‏:‏ ‏{‏وهذا البلد‏}‏ أي مكة، صرح هنا بهذين المكانين ترشيحاً لأن المراد بالأولين مواضع نبتهما مع تلك الإشارة اللطيفة بذكر اسميهما إلى مناسبتهما للمقسم من أجله ‏{‏الأمين *‏}‏ أي الذي يأمن فيه من حل به من البشر والطير والوحش، فكان بذلك كالرجل الأمين الذي يأتمنه آخر على نفسه وما يعز عليه فيؤديه إليه ويوقره عليه، وأمانته شاملة لكل ما يخشى حتى الفقر والعيلة والجوع وتغير الدين بعد تقرره مع أن به البيت الذي جعله الله هدى للعالمين وقياماً للناس فهو مدار الدين والدنيا، وكان به من الأسرار بالوحي وآثاره ما لم يكن في بلد من البلاد، وذلك إشارة إلى أنه تعالى كما جعل النبي المبعوث منه في آخر الزمان في أحسن تقويم جعله في أحسن تقويم البلدان إذ كان آمنا من غير ملك مرهوب- والناس يتخطفون من حوله، وهو محل الأنس بالناس كما أن الذي قبله محل الأنس بالانفراد، وهو مجمع المرافق ومعدن المنافع ومحل ذوي الوجاهة ديناً ودنيا، ومحل الرفعة والمناصب مع ما حازه المكانان من تنزل الكتب السماوية وإشراق الأنوار الإلهية الدينية فيهما، وفي ذلك تخويف لهم بأنهم إن لم يرجعوا عن غيهم أخافه إخافة لم يخفها بلداً من بلاد العرب فيكونون بذلك قد ردوا أسفل سافلين في البلد، كما ردوا في الأخلاق بالشقاق واللداد‏.‏

ولما كان هذا القسم مع كونه جامعاً لبدائع المصنوعات التي هي لما ذكر من حكمها دالة على كمال علم خالقها وتمام قدرته جامعاً لأكثر الذين آمنوا، وكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام لكونه أباهم مذكراً مرتين بالأرض المقدسة من القدس ومكة، فتوقع أكمل الخلق وأفطنهم المخاطب بهذا الذكر المقسم عليه علماً منه ببلوغ القسم إلى غايته واستوائه على نهايته، أجيب بقوله تعالى محققاً‏:‏ ‏{‏لقد خلقنا‏}‏ أي قدرنا وأوجدنا بما لنا من العظمة الباهرة والعزة الغالبة القاهرة ‏{‏الإنسان‏}‏ أي هذا النوع الذي جمع فيه الشهوة والعقل وفيه الأنس بنفسه ما ينسيه أكثر مهمه، ولهذا قالت الملائكة عليهم الصلاة والسلام

‏{‏أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏ لأنهم علموا أنه إذا جمع الغضب والشهوة إلى العقل جاءت المنازعة فيتولد الفساد من الشهوة والسفك من الغضب ‏{‏في أحسن تقويم *‏}‏ أي كائن منا روحاً وعقلاً أو أعم من ذلك بما جعلنا له من حسن الخلق والخلق بما خص به من انتصاب القامة وحسن الصورة واجتماع خواص الكائنات ونظائر سائر الممكنات بعد ما شارك فيه غيره من السمع والبصرة والذوق واللمس والشم الجوارح التي هيأته لما خلق له حتى قيل إنه العالم الأصغر كما مضى بسط ذلك في سورة الشمس ثم ميزناه بما أودعناه فيه بما جعلناه عليه من الفطرة الأولى التي لا تبديل لها من الطبع الأول السليم الذي هيأناه به وقويناه بقدرتنا لقبول الحق، وبمثل ما قلته في حمل الآية على الفطرة الأولى قال الأصفهاني في تفسير ‏{‏كان الناس أمة واحدة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 213‏]‏ في البقرة، وقال ابن برجان هنا‏:‏ مفطور على فطرة الإسلام الدين القيم، ثم لما منحناه به من العقل المدرك القويم، فكما جعلنا له شكلاً يميزه عن سائر الحيوان منحناه عقلاً يهديه إلى العروج عن درك النيران إلى درج الجنان بالإيمان والأعمال الصالحة البالغة نهاية الإحسان، بدليل من فيه من الأنبياء الذين أكملهم محمد على جميعهم أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام والتابعين له بإحسان الذين ملؤوا الأرض علماً وحكمةً ونوراً، قال البغوي‏:‏ خلقه سبحانه وتعالى مديد القامة يتناول مأكوله بيده مزيناً بالعقل والتمييز- انتهى، والعقل هو المقصود في الحقيقة من الإنسان لأن من أسمائه اللب، ومن المعلوم أن المقصود من كل شيء لبه وهو الشرع كما مضى في آخر النساء، والظاهر أن عقول الناس بحسب الخلق متقاربة وأنها إنما تفاوتت بحسب الجبلة فبعضهم جعل سبحانه وتعالى عنصره وجبلته في غاية الفساد فلا تزال جبلته تردي على عقله فيتناقص إلى أن يصير إلى أسوأ الأحوال، فكل ميسر لما خلق له، وبعضهم يصرف عقله بحسب ما هيأه الله له إلى ما ينجيه، وبعضهم يصرفه لذلك إلى ما يرديه، لأنك تجد أعقل الناس في شيء وأعرفهم به أشدهم بلادة في شيء آخر، وأغباهم في شيء أذكاهم في شيء آخر- فاعتبر ذلك، وبذلك انتظم أمر الخلق في أمر معاشهم بالعلوم والصنائع والأحوال- والله الهادي، وهذه الآية تدل على أن الله سبحانه وتعالى منزه عن التركيب والصورة لأنه لو كان في شيء منهما لكان هو الأحسن لأن كل صفة يشترك فيها الخلق والحق فالمبالغة للحق كالعالم والأعلم والكريم والأكرم- قاله الأستاذ أبو القاسم القشيري في تفسيره، وصيغة «أفعل» لا تدل على ما قاله الزنادقة، وإن عزي ذلك إلى بعض الأكابر من قولهم‏:‏ ليس في الإمكان أبدع مما كان، لأن الدرجة الواحدة تتفاوت إلى ما لا يدخل تحت حصر كتفاوت أفراد الإنسان في صوره وألوانه، وغير ذلك من أكوانه وبديع شأنه، وقد بينت ذلك في تصنيف مفرد لهذه الكلمة سميته‏:‏ تهديم الأركان من «ليس في الإمكان أبدع مما كان»، وأوضحته غاية الإيضاح والبيان، وجرت فيه فتن تصم الآذان، ونصر الله الحق بموافقة الأعيان، وقهر أهل الطغيان، ثم أردفته بكتاب «دلالة البرهان على أن في الإمكان أبدع مما كان ثم شفيت الأسقام، ودمغت الأخصام، وخسأت الأوهام، بالقول الفارق بين الصادق والمنافق، وهو نحو ورقتين في غاية الإبداع في قطع النزاع، ويمكن أن تكون صيغة أفعل مفيدة بالنسبة إلى شيء أراده الله بحيث إن نتفطن له نحن لأن من المجمع عليه عند أهل السنة وصرح به الأشعري وغيره في غير موضع من كتبهم أن الله تعالى لا تتناهى مقدوراته، وممن صرح بما صرح به الأشعري وأكثر في الإمام حجة الإسلام الغزالي في كتبه الإحياء وغيره ولا سيما كتابه» تهافت الفلاسفة «وبين أن هذا من قواعدهم لنفيهم صفة الإرادة وقولهم بأن فعله بالذات، وبين فساد ذلك، وأنه سبحانه وتعالى قادر على اختراع عالم آخر وثالث متفاوتة بالصغر والكبر، وعلى كل ممكن، وعرف أن الممكن هو المقدور عليه، وأنه يرجع إلى المقدور عليه أيضاً ممكن، وعرف الممتنع بانه إثبات الشيء مع نفيه، وإثبات الأخص مع نفي الأعم، وإثبات الاثنين مع نفي الواحد، وقال‏:‏ وما لا يرجع إلى ذلك فهو ممكن، فدخل فيه عالم أبدع من هذا العالم- والله الموفق لما يريد‏.‏

ولما كان الإنسان مع هذه المحاسن قد سلط الله سبحانه وتعالى عليه شهوات وهيأ طبعه لرذائل وأخلاق دنيئات، وأهوية وحظوظ للأنفس مميلات، وكان أكثر الخلق بها هالكاً لتتبين قدرة الله سبحانه وتعالى، لم يستثن بل حكم على الجنس كله بها كما حكم عليه بالتقويم، فقال تعالى دالاً بأداة التراخي على أن اعوجاجه بعد ذلك العقل الرصين والذهن الصافي المستنير في غاية البعد لولا القدرة الباهرة والقوة القاسرة القاهرة‏:‏ ‏{‏ثم رددناه‏}‏ أي بما لنا من القدرة الكاملة والعلم الشامل، فعطل منافع ما خلقناه له فضيع نفسه وفوّت أساب سعادته ونكسناه نحن في خلقه، فصار بالأمرين في خلقه وخلقه نفساً وهوى أو أعم من ذلك بالنكس ‏{‏أسفل سافلين *‏}‏ أي إلى ما تحت رتبة الجمادات المستقذرات، فصار يعمل الأعمال السيئات المقتضية بعد حسن الجمع لغاية الشتات، أما رده في خلقه فبأن سلطنا عليه الشهوات التي ركبناها في النفوس، وجعلناها داعية إلى كل بؤس، فغلبت على عقله فأعمته حتى أوردته الموارد، وأوقعته في المهاوي والمعاطب، حتى أنه ليركب كثيراً من أموره وهو قاطع بأنه باطل شنيع، لا يقدم على مثله عاقل، فصار يعبد من دون الله ما هو دون البشر بل ومطلق الحيوان مما لا ضر فيه ولا نفع، وصار يركب الظلم والعدوان والإفك والبهتان، وما لا يحصى بالعد من أنواع الفواحش والعصيان، ويظلم أبناء جنسه وغيرهم، ويجتهد في الفجور، ويتصرف بما لا يشك هو في أنه لا يقره عليه من له أدنى نظر ممن يلزمه أمره ويعنيه شأنه، فصار بذلك أحط رتبة من البهائم بل من أدنى الحشرات المستقذرات لأنها وإن كانت لها شهوات إلا أنها ليس لها عقل تغطيه بها وتطمس نوره بظلامها، فلا تنسب إلى أنها فوّتت شيئاً لعدم تكليفها لعدم العقل الموجب للشرف، وأما هو فاستعمل ما خلقناه له من الآلات، وما فضلناه به من الكمالات، في غير ما خلقناه له فاستحق العذاب المهين، ثم يموت من غير مجازاة على شيء من ذلك أو على كثير منه، فلا بد في الحكمة حينئذ من بعثه، وله بعد البعث عند ربه على ذلك عذاب مقيم، وأما في خلقه فبالهرم حتى صار بعد تلك القوى ضعيفاً، وبعد ذلك العز ذليلاً مهيناً، وبعد ذلك العلم الغزير والفكر المنير لا يعلم شيئاً، وصار يستقذره وينكره من كان يألفه ويستعطره، وقال ابن برجان‏:‏ أما رده في طريق الديانة فبالكفر والتكذيب، وأما فيما سبيله الجزاء فبالمسخ في دار البرزخ وتحويل صورته إلى ما غلب عليه خلقته وعمله في الدنيا من الدواب والهوام والبهائم، وفي الآخرة تزرق عيناه ويشوه خلقه، وقال الإمام أبو العباس الأقليشي في شرح «المقدم المؤخر» من شرحه للاسماء الحسنى‏:‏ إن الله تعالى خلقه‏.‏

أي الإنسان- أولاً في أحسن تقويم، ثم ركبه في هذا الجسم الذي يجذبه إلى أسفل سافلين، فإن قدم عقله على هواه صعد إلى أعلى عليين، وكان من المقربين المقدمين، وإن قدم هواه هبط إلى إدراك الجحيم، وكان من المبعدين المؤخرين‏.‏

ولما حكم بهذا الرد على جميع النوع إشارة إلى كثرة المتصف به منهم، وكان الصالح قليلاً جداً، جعله محط الاستثناء فقال‏:‏ ‏{‏إلا الذين آمنوا‏}‏ أي بالله ورسله فكانوا من ذوي البصائر والمعارف، فغلبنا بلطفنا عقولهم بما دعت إليه وأعانت عليه الفطرة الأولى على شهواتهم، وحميناهم من أرذل العمر، فكانوا كلما زدناهم سناً زدنا أنوار عقولهم ونقصنا نار شهواتهم بما أضعفنا من إحكام طبائعهم وتعلقهم بهذا العالم، وأحكمنا من مدارك أنوار الحق وإشراقاته منهم، وأعظمنا من قوى أرواحهم‏.‏

ولما كان الإنسان قد يدعي الإيمان كاذباً قال‏:‏ ‏{‏وعملوا‏}‏ أي تصديقاً لدعواهم الإيمان ‏{‏الصالحات‏}‏ أي من محاسن الأعمال من الأقوال والأفعال ثابتة الأركان على أساس الإيمان، محكمة بما آتيناهم من العلم غاية الإحكام، متقنة غاية الإتقان، فإنا حفظناهم- وقليل ما هم- بما كملناهم به وشرفناهم على جميع الحيوانات وسائر من سواهم فلم نمكن منهم الشهوات ولا غيرها، وأقمناهم على ما اقتضاه منهاج العقل، فتبعوا الرسل بسبب إبقائنا لهم على الفطرة الأولى في أحسن تقويم، لم يدنس محياها بشهوة ولا حظ ولا هوى، فسهل انقيادهم، فأداهم ذلك إلى العدل والنصفة والإحسان، وجميع مكارم الأخلاق ومعالي الأمور، ولم يزيغوا عن منهاج الرسل في قول ولا عمل، فالآية كما ترى من الاحتباك‏:‏ حذف أولاً بما أفهمته الآية عمل السيئات، وثانياً الإبقاء على أصل الخلق في أحسن تقويم على الفطرة الأولى، ليكون نظمها في الأصل ‏{‏ثم رددناه أسفل سافلين‏}‏ بعمل السيئات فله على ذلك عذاب مهين ‏{‏إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏ فإنا أبقيناهم على الفطرة الأولى في أحسن تقويم‏.‏

ولما كان السياق لمدح المؤمنين، حسن أن يعد أعمالهم التي تفضل عليهم بها سبباً كما منّ عليهم به من الثواب فقال‏:‏ ‏{‏فلهم‏}‏ أي فتسبب عن ذلك أن كان لهم في الدارين على ما وفقوا له مما يرضيه سبحانه وتعالى ‏{‏أجر‏}‏ أي عظيم جداً وهو مع ذلك ‏{‏غير ممنون *‏}‏ أي مقطوع أو يمن عليهم به حتى في حالة المرض والهرم لكونهم سعوا في مرضاة الله سبحانه وتعالى وعزموا عزماً صادقاً أنهم لا ينقصون من أعمال البر ذرة ولو عاشوا مدى الدهر، وذلك الأجر جزاء لأعمالهم فضلاً منه بالأصل والفرع حتى أنهم إذا عجزوا بالهرم كتب لهم أجر ما كانوا يعملون في حال الصحة، ولمن تابع هواه في السفول عذاب عظيم لأنه رد أسفل سافلين‏.‏

ولما ثبت بهذا أنه لا يجوز في الحكمة تركهم بغير جزاء مع ما يشاهد من ظلم بعضهم لبعض معاندة لما يقتضيه قويم العقل الذي لا شك فيه، فكان ذلك بحيث لا يرضاه أحد منهم ولا يقر مخلوق عبيداً في ملكه على مثله بأن يبغي بعضهم على بعض فيهملهم بل لا بد أن يحجز بينهم أو يأخذ للمظلوم من الظالم، ولو كان ذلك المالك أقل الناس وأجهلهم فكيف إن كان عاقلاً فكيف إن كان حاكماً فكيف إن كان لا يخاف أحداً فكيف إن كان عدلاً مقسطاً قد ثبتت إحاطة علمه وقدرته سبحانه وتعالى، حسن كل الحسن أن يكون ذلك سبباً للإنكار على من يظن أن الله يهمل عباده من الحكم بينهم لمجازاة كل من المطيع والعاصي بما عمل مع ما ترى من ظلم بعضهم لبعض، وأن الظالم قد يموت قبل القصاص، فقال مسبباً عن الوعد بما أفصح به الكتاب من إثابة المؤمنين الذي طالما بغى عليهم الظلمة، وانتقصهم حقوقهم الفسقة، والوعيد بما أفهمه الخطاب لعتاب المجرمين الذين طالما بغوا على غيرهم‏:‏ ‏{‏فما‏}‏ أي فتسبب عن إقامة الدليل على تمام القدرة وعلى بغي العبيد بعضهم على بعض أنه يقال لك تصديقاً لك فيما أخبرت به من أن الله سبحانه وتعالى يبعث الخلائق بعد موتهم ليجازي كلاًّ بما عمل وإنكاراً على من كذبك‏:‏ ما ‏{‏يكذبك‏}‏ أي أيّ شيء ينسبك إلى الكذب يا أشرف الخلق وأكملهم نفساً وأتقاهم عرضاً وأطهرهم خلقاً وخلقاً، وعبر ب «ما» إشارة إلى أن الكذب بهذا مع هذا الدليل القطعي الذي تضمنته هذه السورة في عداد ما لا يعقل بل دونه ‏{‏بعد‏}‏ أي بعد مشاهدة بغي بعض الناس على بعض استعمالاً لحال النكس، وأعراه من الجار إشارة إلى أن من آمن قبل الغرغرة واتصل إيمانه ذلك بموته كان ممن له أجر غير ممنون ‏{‏بالدين *‏}‏ أي الجزاء لكل أحد بما يستحقه على سبيل العدل والإنصاف لأجل تلك الأعمال التي غلبت فيها الحظوظ على العقول، فوقع بها من الظلم والأذى ما لا يسع عاقلاً من العباد أن يحسن عنده ترك فاعلها من غير جزاء حتى كان أكثر أفعال العباد ظلماً، ومن شأن الملوك الإنصاف بين عبيدهم ورعاياهم، فكيف بالله سبحانه وتعالى الذي شرع لعباده ذلك، وقد ثبت بما له من هذا الخلق العظيم، على هذا النظام المحكم والمنهاج الأقوم أنه الحكيم، الذي لا حكيم غيره، العليم الذي لا عليم سواه‏.‏

ولما صح أن تارك الظالم بغير انتقام والمحسن بلا إكرام ليس على منهاج العدل الذي شرعه الله تعالى، حسن جداً تكرير الإنكار بقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏أليس الله‏}‏ أي على ما له من صفات الكمال، وأكده بالجار في قوله‏:‏ ‏{‏بأحكم الحاكمين *‏}‏ أي حتى يدع الخلق يهلك بعضهم بعضاً من غير جزاء، فيكون خلقهم عبثاً، بل هو أحكم الحاكمين علماً وقدرة وعدلاً وحكمة بما شوهد من إبداعه الخلق ومفاوتته بينهم، وجعل الإنسان من بينهم على أحسن تقويم، فلا بد أن يقيم الجزاء ويضع الموازين القسط ليوم القيامة فيظهر عدله وحكمته وفضله، وهذا الآخر هو أولها قسماً من جهة النبوات التي ظهر بها حكمه وحكمته، ومقسماً عليه من حيث إن الخلق في أحسن تقويم يقتضي العدل لا محالة، والرد أسفل سافلين يتقاضى الحكم حتماً لأجل ما يقع من الظلم والتشاجر بين من استمر على الفطرة القويمة ومن رد لأسفل سافلين، وقد اشتملت هذه السورة على وجازتها على جميع مقاصد التوراة إجمالاً، وزادت الدلالة على الآخرة، وذلك أن قسمها هو قوله في التوراة «أتانا ربنا من سيناء وشرق بنا من جبل ساعر، وظهر لنا من جبال فاران» والخلق في أحسن تقويم هو خلق آدم عليه الصلاة والسلام المذكور في أولها وخلق زوجه وما يحتاجان إليه من السماء والأرض، وخلق الأصفياء من أولادهما وما جاؤوا به من الخير، والذين آمنوا وعملوا الصالحات هو ما فيها من الشرائع والأحكام، وقوله بعد ما تقدم من المعبر بالمقسم عنه «معه ربوات الأطهار عن يمينه أعطاهم وحببهم إلى الشعوب، وبارك على جميع أطهاره» والرد أسفل سافلين هو ما ذكر أولها من العصاة من قابيل ومن بعده إلى آخرها، على ما أشار إليه من عصيان بني إسرائيل الموجب للعنهم، فقد اكتنفت بأول التوراة وآخرها وأوسطها، وابتدأ بآخرها لأنه في النبوات، وهي أهم المهم لأنها المنجية من شر قطاع الطريق، وآخرها أدل ما فيها على النبوات لا سيما الثلاث العظام- المشار إليه بقسم هذه السورة- والله سبحانه وتعالى أعلم بالغيب‏.‏